• International Relations
    Feb 17, 2022

    الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط: عام على تولّي إدارة الرئيس بايدن زمام الحكم

    • بول سالم
    الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط: عام على تولّي إدارة الرئيس بايدن زمام الحكم

    رئيس معهد الشرق الأوسط بول سالم يتحدث إلى المركز اللبناني للدراسات حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعد مرور عام على إدارة بايدن. من المفاوضات النووية الإيرانية إلى اتفاقيات ابراهيم، يتطرق سالم إلى التحولات الدراماتيكية التي تحدث في جميع أنحاء المنطقة وتأثيرها على لبنان، حيث يمر البلد بواحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخه.

     

    في ضوء المفاوضات الجارية لإبرام اتفاق نووي مع إيران، كيف تقرؤون آثار هكذا اتفاق على علاقات الولايات المتّحدة بالمملكة العربية السعودية وباقي دول الخليج العربي في المرحلة المقبلة؟

     

    تتمتّع الولايات المتّحدة بعلاقات متينة نسبيًا مع دول الخليج الأساسية، كما تحظى هذه العلاقة بأهمية كبرى وبثقل استراتيجي بارز. لا شكّ في أنّ إيران تشكّل مسألة محوريّة بالنسبة إلى الكثير من دول الخليج، ولكنها ليست المسألة الوحيدة المهمّة في العلاقة بين الولايات المتّحدة وهذه الدول. فمن الديناميّات الأساسية التي تتّسم بها هذه العلاقة، وخصوصًا مع المملكة العربية السعودية، مستقبل الطاقة وأسواق الطاقة العالمية. فستبقى الهيدروكربونات جزءًا من موارد الطاقة التي يحتاج إليها العالم خلال عقدَيْن إلى ثلاثة عقود مقبلة، بصرف النظر عن مساعي التحوّل نحو مصادر الطاقة النظيفة.

     

    ويمكن للمملكة العربية السعودية أن تؤدّي دورًا أساسيًا في سوق الطاقة المتجدّدة، وهي حاليًا في صدد التحوّل نحو الهيدروكربونات النظيفة، بما فيها الاعتماد أكثر على الغاز الطبيعي والبدء بالاستثمار في الهيدروجين الأزرق والطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها من مصادر الطاقة المتجّددة، وكذلك في عزل ثاني أكسيد الكربون. فضلًا عن ذلك، من خلال إبقاء التداول بالنفط باستخدام الدولار الأميركي (حتى عند التداول مع الصين وغيرها من الدول الآسيوية)، تؤدّي المملكة العربية السعودية دورًا محوريًا في مساعدة الولايات المتّحدة في إبقاء الدولار العملة العالمية الأساسية، وهو هدف بالغ الأهمية بالنسبة إلى واشنطن. كذلك، فإنّ العلاقة مع الإمارات العربيّة المتّحدة متسمرّة منذ فترة طويلة وقوية، إذ إنها تستند إلى مصالح أساسية وتعاون في الميدان الاقتصادي والأمني. وقد ازداد التعاون العسكري بين الإمارات والولايات المتّحدة في الأسابيع الأخيرة بعد هجمات الحوثيّين ضدّ الإمارات.

     

    وتتميّز علاقة الولايات المتّحدة بقطر بمتانتها أيضًا، إذ إنّ قطر تؤدي دورًا هامًا في قطاع الهيدروكربونات، وخصوصًا الغاز الطبيعي، الذي يكتسب أهمية متزايدة في الآونة الأخيرة مع تهديد روسيا بقطع إمدادات أوروبا من الغاز الطبيعي. فتريد الولايات المتّحدة من قطر إنتاج المزيد من الغاز الطبيعي وتزويد أوروبا به كبديل عن الغاز الروسي للردّ على الضغوط التي يمارسها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كذلك، لعبت قطر دورًا محوريًا بعد انسحاب الولايات المتّحدة الكارثي من أفغانستان، إذ مثّلت الولايات المتّحدة هناك وسيّرت رحلات جوّية لإخراج الكثير من الناس من البلد نيابة عن الولايات المتّحدة، كما شاركت في المحادثات مع حركة "طالبان". علاوة على ذلك، تستضيف قطر قاعدة جوّية أميركية كبرى والمقرّ الإقليمي للقيادة المركزية الأميركية، إلى جانب القاعدة البحريّة الأميركية في البحرين، التي تضمّ الأسطول الخامس لسلاح البحرية الأميركي.

     

    ولدى الولايات المتّحدة أيضًا مصلحة استراتيجية في إبقاء مضيقَيْ هرمز وباب المندب وخطوط الملاحة في البحر الأحمر مفتوحة أمام نقل موارد الطاقة والتجارة الدولية. ويتطلّب ذلك تعاونًا وتنسيقًا مستمرَّيْن مع دول مجلس التعاون الخليجي، وخصوصًا مع المملكة العربية السعودية في البحر الأحمر.

     

    أعتقد أنّ أثر الاتفاق مع إيران، في حال إبرامه، سيكون محدودًا على المملكة العربية السعودية ودول الخليج، إذ إنّ هذه الأخيرة سبق أن راعت في حساباتها احتمال التوصّل إلى هكذا اتفاق. فمن جهة، تعتقد دول الخليج أنّ استئناف العمل بخطة العمل الشاملة المشتركة قد يحمل أثرًا إيجابيًا، إذ إنّ هذه الخطة تساعد في ضبط برنامج إيران النووي. ولكن من جهة أخرى، توفّر هذه الخطة المزيد من الموارد المالية لإيران، التي يُحتمَل أن تستثمر هذه الإيرادات في دعم الميليشيات الحليفة لها في اليمن وسوريا والعراق ولبنان.

     

    بالرغم من ذلك، أعتقد أنّ دول الخليج أدركت أنّ الولايات المتّحدة غير راغبة في خوض مواجهة شاملة مع إيران أو هزيمتها أو القضاء على التهديد الإيراني بالكامل، بصرف النظر عمّن يتولّى زمام الحكم في واشنطن، سواء أكان دونالد ترامب أو باراك أوباما أو جو بايدن. فأقصى ما يمكن أن تفعله الولايات المتّحدة هو فرض عقوبات أو استخدام وسائل سيبرانية أو سرّية ومساعدة حلفائها في الخليج في الدفاع عن أنفسهم – وهي لن تخوض حربًا شاملة ضدّ إيران. لذا، أعتقد أنّ دول الخليج باتت تعي أنّها مضطرّة إلى التعايش مع الجمهورية الإسلامية والحدّ من الأضرار والمخاطر التي قد تطالها.

     

    في الواقع، فتحت بعض دول الخليج قنوات تواصل مع الإيرانيين – كالمملكة العربية السعودية بواسطة بغداد، أو كما ظهر في زيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي إلى طهران. وعليه، تبحث دول الخليج عن طرق لتخفيف التوتّر مع إيران على الأقل، بالرغم من أنها لا تتوقع انحسار نفوذ إيران بشكل ملحوظ في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وبغض النظر عن هذا الواقع، تريد دول الخليج المضي قدمًا في تنفيذ برامجها: فالمملكة العربية السعودية تريد تنفيذ رؤيتها للعام ٢٠٣٠، ومن مصلحة الإمارات التأكد من عدم تعرّضها لهجمات إضافية من قبل الحوثيين أو أيّ من وكلاء إيران الآخرين. لهذه الأسباب كلها، أعتقد أنّ العلاقة بين الولايات المتّحدة ودول الخليج ستبقى قوية سواء أُبرم الاتفاق أم لا.

     

    خلال إدارة ترامب، لعبت الولايات المتّحدة دورًا أساسيًا في إبرام اتفاقيات إبراهيم بين الإمارات العربيّة المتّحدة والبحرين، من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى. كيف تستشرفون مستقبل هذه الجهود في ظلّ إدارة بايدن، وما هي تداعياتها على لبنان؟

     

    في ما يتعلّق باتفاقيات إبراهيم، أعتقد أنّ إدارة بايدن لا تأتي على ذكرها كثيرًا لأسباب سياسية، لأنها أُنجزت في عهد سلفه ترامب. ومع أنّ إدارة بايدن تعتبر أنّ هذه الاتفاقيات خطوة إيجابية، فهي لن تبذل جهودًا واسعة لتطويرها. في رأيي، ستتقبل إدارة بايدن أيّ ترتيب تتوصّل إليه الأطراف المعنية بهذه الاتفاقيات في ما بينها.

     

    استأنفت إدارة بايدن التواصل المباشرة مع السلطة الفلسطينية بواسطة هادي عمرو، المبعوث الأميركي الخاص، ومن خلال الإفراج عن الأموال المحتجزة. إلا أنّ إدارة بايدن لا تضع مساعي صنع السلام بين إسرائيل والفلسطينيين في أعلى سلّم أولوياتها، لأنها تواجه الكثير من المشاكل والأولويات الأخرى – ببساطة، أمام إدارة بايدن الكثير من الاستحقاقات التي تعتبرها أكثر إلحاحًا.

     

    مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنّ إدارة بايدن تدعم الجهود الرامية إلى إبرام اتفاقية سلام وحلّ الدولتَيْن، ولكنها تُدرِك أنّ "حكومة التناقضات" الحالية في إسرائيل ليست في موقع يخوّلها خوض مفاوضات مع الفلسطينيين. وعلى المقلب الفلسطيني، يواجه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس تشكيكًا في شرعيته، كما قرّر تأجيل الانتخابات، وبالتالي فهو ليس في موقع قوي للتفاوض أيضًا. لذا، ومع أنّ إدارة بايدن غير متحمّسة لتطوير اتفاقيات إبراهيم وتفضِّل استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فهي لا ترى إمكانية للقيام بذلك في الوقت الحالي، ولهذا السبب لا تتعاطى مع هذه المسألة على أنها أولوية.

     

    أمّا في ما يخصّ تداعيات هذه التطوّرات على لبنان، فلا أعتقد أنها ستؤثر مباشرة على لبنان. صحيح أنّ اتفاقيات إبراهيم تُحدِث ديانيميّات جديدة ومهمّة في منطقة الشرق الأوسط على مستوى الاقتصاد والأمن والاستثمار والتجارة والتكنولوجيا. ولكن بالرغم من هذه التغيّرات اللافتة، فإنّ لبنان في منأى عن هذه الديناميّات، لأنه لا يزال يدور في فلك إيران/حزب الله في ما يتعلّق بالقضايا الاستراتيجية، وهو في حالة عداء مع إسرائيل، كما أنّ علاقته بدول الخليج في أسوأ مراحلها. بطبيعة الحال، يتفاوض لبنان مع إسرائيل حول حدوده البحرية، وربما حدوده البرّية أيضًا، ولكنّ المسألة تقف عند هذا الحدّ.

     

    هل تعتبرون أنّ التغيّرات في سياسة الولايات المتّحدة تجاه الشرق الأوسط نتيجة لاستلام إدارة بايدن زمام الحكم، أم أنها نتيجة تحوّل جذري في أولويات الولايات المتّحدة وشواغلها؟

     

    في ما يتعلّق بتغيّر سياسة الولايات المتّحدة تجاه الشرق الأوسط، أعتقد أننا شهدنا تحوّلات هيكليّة في إدارات كلّ من الرؤساء أوباما وترامب وبايدن. فمنذ عهد الرئيس باراك أوباما – وحتى منذ أواخر عهد الرئيس جورج بوش الابن – أدركت الولايات المتّحدة أنها ارتكبت خطأً في خوضها حرب العراق واستثمارها الضخم في هذا البلد، إذ إنها لم تحقّق أيّ نتائج فعلية تعود عليها بالفائدة. وينتج عن هذا الموقف سعي إلى الحدّ من حضور الولايات المتّحدة واستثمارها في العراق. وبالرغم من انسحاب الجيش الأميركي من العراق في عهد أوباما، اضطرّ الأخير إلى إعادة بعض القوّات إلى العراق، وستُحافظ الإدارات الأميركية على حضورها في العراق على المدى المنظور، لتجنّب خضوع البلد بالكامل إلى نفوذ إيران، ولأنّ تنظيم "الدولة الإسلامية" لا يزال يشكّل خطرًا – وقد التزمت الإدارات الأميركية الثلاث الأخيرة بهذا الموقف.

     

    أمّا في ما يتعلّق بأفغانستان، فقد أعلن كلّ من أوباما وترامب وبايدن عن نيّتهم الانسحاب من أفغانستان، إلا أنّ الرئيس بايدن هو الوحيد الذي اتّخذ هذه الخطوة فعليًا. كما بات معلومًا، كانت طريقة خروج القوّات الأميركية من أفغانستان كارثية، وأضرّت بمصداقية الولايات المتّحدة كشريك موثوق. فقد صُدِم حلفاء الولايات المتّحدة من هذا الانسحاب السريع للغاية. أمّا خصومها، فازدادوا جرأة وباتوا ينظرون إليها على أنها ليست بالقوّة التي تدّعيها. لذا، أعتقد أنّ هذا الانسحاب الكارثي من أفغانستان سيُثني الولايات المتّحدة، أو على الأقل إدارة بايدن، من اتّخاذ خطوة مماثلة في سوريا أو العراق مثلًا، لأنّ إدارة بايدن غير قادرة على تحمّل الكلفة السياسية لانسحاب آخر. لا شكّ إذًا في أنّ الولايات المتّحدة – منذ إدارة أوباما وحتى إدارة بايدن – خفّضت انخراطها وحضورها الكثيفَيْن في أفغانستان والعراق مقارنةً بما كانا عليه في عهد الرئيس جورج بوش، ما يعكس توافقًا في الولايات المتّحدة على أنّ تلك الحروب الكبرى كان يجب أن تنتهي منذ فترة طويلة.

     

    أمّا التحوّل البارز الآخر فيتعلّق بطبيعة الحال بصعود الصين وحاجة الولايات المتّحدة إلى التركيز على هذا التطوّر باعتباره مسألة مركزية. ما الذي يعنيه ذلك؟ أولًا، هو لا يعني إطلاقًا أنّ الولايات المتّحدة ستغادر الشرق الأوسط. فمن الأسباب الأساسية لحفاظ الإدارات الأميركية المتعاقبة على حضورها في الشرق الأوسط هو تنافسها مع الصين، وبالتالي من المرجح أن يستمرّ هذا الحضور في المرحلة المقبلة. ففي حال غادرت الشرق الأوسط نهائيًا أو بسرعة كبيرة، تخشى الولايات المتّحدة أن ترث الصين مكانتها في المنطقة، ما سيشكل مصدر قلق عالمي ضخم بالنسبة إليها. وبالرغم من بعض الاختلافات، تشبه هذه الشواغل حسابات الولايات المتّحدة خلال حقبة الحرب الباردة – أي أنّه في حال انسحاب الولايات المتّحدة من منطقة معيّنة، ستحلّ محلّها القوة العظمى المنافسة لها.

     

    والأهم من ذلك هو أنّ الولايات المتّحدة لا تزال تعتقد أنّ لديها مصالح مستمرّة في لشرق الأوسط، وخصوصًا في دول الخليج، كما سبق أن ذكرت (تتعلّق بالطاقة، والدولار الأميركي، والتجارة، والأمن). كذلك، لديها مصلحة أمنية في مواصلة حربها ضدّ بقايا تنظيمَيْ "الدولة الإسلامية" و"القاعدة"، وفي منع إيران من الاستحواذ على سلاح نووي، فضلًا عن علاقتها "المميّزة" بإسرائيل.

     

    لا شكّ في أنّ البرنامج النووي الإيراني من الشواغل الأساسية للولايات المتّحدة. فقد رأينا ذلك خلال عهد أوباما، ثم خلال عهد ترامب، الذي اتّبع نهجًا مختلفًا عبر اعتماد سياسة الضغط الأقصى، ونرى ذلك الآن خلال عهد بايدن، وستبقى هذه المسألة من الشواغل الأساسية للأميركيّين في المرحلة المقبلة.

     

    في ضوء ذلك، يمكننا الاستنتاج بأنّ التحوّل في سياسة الولايات المتّحدة تجاه الشرق الأوسط هو تحوّل هيكلي بالدرجة الأولى – وهدفه تصحيح الانتشار المفرط الذي حصل خلال إدارة الرئيس جورج بوش الابن والاستثمار أكثر في آسيا. ولكنّ الولايات المتّحدة باقية في الشرق الأوسط في الوقت الحالي، وستبقى اللاعب الأكثر نفوذًا في المنطقة على المدى المنظور. فلا تزال الولايات المتّحدة تمتلك الاقتصاد الأضخم في العالم، والجيش الأكبر، وأوسع شبكة من التحالفات والعلاقات الممتدّة من المغرب إلى عُمان.

     

    في المقابل، لا تزال روسيا لاعبًا صغيرًا نسبيًا، فيبلغ اقتصادها ٧٪ من اقتصاد الولايات المتّحدة، ولا ينظر إليها الأميركيون بالتالي كندّ أو خصم عالمي. فصحيح أن الرّوس قادرون على التدخّل في سوريا وبنسبة أقل في ليبيا – ولديهم تأثير أوسع من ذلك بكثير في أوروبا الشرقية، كما يتبيّن من خلال الأزمة الأوكرانية – إلا أنّ نفوذ روسيا لا يوازي نفوذ الاتّحاد السوفياتي سابقًا، وهي غير قادرة على إغراء دول الشرق الأوسط واقتصاداته بشراكة كبرى يمكنها استبدال الدور الأميركي.

     

    أمّا الصين – القوة العظمى الناشئة – فلديها مصالح بعيدة المدى في الشرق الأوسط، وهي لا تمانع حاليًا الدور الأميركي في المنطقة، لأنه يضمن تصدير النفط بحرية، بما في ذلك إلى الصين نفسها. بالإضافة إلى ذلك، تضمن الولايات المتّحدة بقاء طرق التجارة مفتوحة، بما فيها تلك التي تخدِم الصين ومصالحها التجارية. وعليه، لا تسعى الصين إلى منافسة نفوذ الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط في المستقبل القريب، بل هي تركّز بدلًا من ذلك على مسألتَيْ تايوان وبحر الصين الجنوبي، اللتين تفرضان تحدّيات مباشرة بالنسبة إلى الصين. ولكن بخلاف الروس، يعتمد الصينيّون سياسة طويلة الأمد وأكثر نعومة، وهم يوسّعون نفوذهم في الشرق الأوسط من خلال صفقات البنى التحتية والتكنولوجيا والاتصالات. وإذا استمرّ الاقتصاد الصيني بالنمو بالوتيرة نفسها، قد تسعى الصين في العام ٢٠٤٠ أو ٢٠٤٩ (أي في الذكرى المئوية لتأسيس الصين الشيوعية) إلى شنّ حملة جيوسياسية عالمية لتحدّي النفوذ الأميركي، قد يكون الشرق الأوسط أحد ميادينها، ولكنها لن تُقدِم على خطوة مماثلة في المدى القريب.

     

    لا شكّ في أنّ التغيير الذي أدخلته إدارة بايدن تمثّل في اعتماد مقاربة مختلفة تجاه إيران، أشبه بسياسة أوباما. إلا أنّ السياسة الأميركية تجاه دول الخليج لم تشهد أيّ تغيّر ملحوظ. قد يلاحظ البعض تغيّرات في الخطاب الأميركي العام، كالحديث أكثر عن قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان بين الحين والآخر، إلا أنّ ذلك لن يؤثر كثيرًا على العلاقة مع دول كمصر والمملكة العربية السعودية وإسرائيل، التي لا تزال على حالها. ختامًا، أعتقد أنّ السياسة الخارجية للولايات المتّحدة لا تزال متّسقة إلى حدّ بعيد، وهي لا تتأثر كثيرًا بتغيّر الإدارات والرؤساء.

     

    في ضوء التطوّرات الأخيرة في لبنان، هل تعتقدون أنّ إدارة الرئيس بايدن بدأت بصياغة أجندة خاصة بلبنان؟

     

    لا بدّ من الاعتراف بأنّ لبنان يحظى بقدر لافت من الاهتمام والدعم من الإدارات الأميركية المتعاقبة مقارنة بحجمه – وحتى من الكونغرس. فتمثّل الولايات المتّحدة أحد الداعمين الأساسيين للجيش اللبناني، وهي من بين الجهات المانحة الأساسية للمساعدات الإنسانية، للاجئين بدايةً، وفي الآونة الأخيرة للمواطنين اللبنانيين. وبطبيعة الحال، فإنّ الولايات المتّحدة هي أيضًا الجهة الفاعلة الأساسية في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كما أنها شريك بارز في الدفع باتجاه إقرار الإصلاحات التي يحتاج إليها لبنان، وفي تأمين الدعم من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في حال تنفيذ تلك الإصلاحات. لذا، لا شكّ في أنّ السياسة الأميركية تجاه لبنان محدّدة المعالم، وهي إجمالًا إيجابية وتنطوي على الكثير من المبادرات تجاه البلد.

     

    ولكن للأسف، تكمن المشكلة في بيروت – لا في باريس أو واشنطن. فالشركاء الدوليون مستعدّون لتقديم الدعم – إلّا أنّ الأوليغارشية الحاكِمة والحكومات المتعاقبة، بما فيها الحكومة الحالية، تمتنع عن تنفيذ أيّ إصلاحات كبرى أو ذات مغزى. وبات من الواضح أنّ الحكومة لم تتّخذ أيًا من الإجراءات المطلوبة للإفراج عن الدعم الموعود، حتى في المسائل الخطيرة، مثل انهيار القطاع المصرفي.

     

    فضلًا عمّا سبق، أعتقد أنّ الولايات المتّحدة تعتمد سياسية خاصة تجاه لبنان لا تتعلّق بإيران ولا بإسرائيل أو سوريا. فكما ندرك جميعًا، لعبت الولايات المتّحدة دورًا أساسيًا في محاولة إيصال الكهرباء والغاز إلى لبنان، حتى ولو مرّت الإمدادات عبر سوريا – ما تطلّب تجاوز بعض القيود التي يفرضها قانون قيصر. في الختام، أودّ أن أضيف أنّ دعم الولايات المتّحدة وأوروبا إلى لبنان جيّد، لكنّ المشكلة تكمن في الحكومة اللبنانية والطبقة الحاكمة، اللتين لم تتّخذا أي إجراء جدّي للاستفادة من هذا الدعم.

     

    لم تفضِ الجهود الدبلوماسية الأخيرة لمعالجة الخلاف بين المملكة العربية السعودية ولبنان سوى إلى نتائج محدودة. في رأيكم، ما الدور الذي قد تلعبه الولايات المتّحدة لمعالجة هذه المشكلة المتفاقمة؟

     

    في ما يتعلّق بعلاقة لبنان بالمملكة العربية السعودية ودول الخليج عمومًا، حاولت الولايات المتّحدة دفع دول الخليج إلى إعادة الانخراط في لبنان. فعلى سبيل المثال، أعربت الولايات المتّحدة عن سرورها لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى السعودية، وهي تنسّق باستمرار مع الفرنسيين في هذا المجال. لا أعرف ما إذا كانت المبادرة الأخيرة التي أطلقها وزير الخارجية الكويتي نتيجة للجهود الدبلوماسية الفرنسية أو الأميركية، ولكنّني متأكد من أنّ الولايات المتّحدة ما زالت تعمل مع دول الخليج لدفعها إلى الانخراط أكثر في لبنان. فبالنسبة إلى الأميركيين، لا يساعد انسحاب دول الخليج من لبنان سوى إيران وحزب الله – ولا يفيد أحدًا غيرهما. كذلك، تُدرِك واشنطن أنّ الحكومة اللبنانية، في حال نفّذت أيّ إصلاحات اقتصادية فعلية، بحاجة إلى دول الخليج لإعادة إحياء الاقتصاد اللبناني.

     

    بول سالم
    هو رئيس معهد الشرق الأوسط، ويركّز في أبحاثه على موضوعات التغيير والانتقال السياسيَّيْن والنزاع، كما وعلى العلاقات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط. قبل انضمامه إلى معهد الشرق الأوسط، تولّى بول سالم منصب المدير المؤسّس لمركز "كارنيغي" للشرق الأوسط في بيروت بين العامَيْن ٢٠٠٦ و٢٠١٣. وخلال الفترة الممتدّة بين ١٩٩٩ و٢٠٠٦، تولّى إدارة مؤسسة عصام فارس، كما أسّس وتولّى إدارة المركز اللبناني للدراسات بين 1989 و1999.
Sign up for our Newsletter
Thank you for subscribing to our newsletter!