• Social Issues
    Nov 03, 2021

    ضمان التخصيص المسؤول لحقوق السحب الخاصة للبنان

    • فادي نقولا نصّار، وليد صايغ، سارة هيغ
    خلال الأشهر القليلة المقبلة من المتوقع أن يصدر صندوق النقد الدولي حزمة جديدة من حقوق السحب الخاصة لدوله الأعضاء البالغ عددها 190 دولة، استجابة إلى الصدمات الاقتصادية العالمية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19). وكون لبنان عضوًا مشاركًا، من المقرر أن يتلقى ضخًّا نقديًا غير مشروط بقيمة 860 مليون دولار. وعلى الرغم من أن هذا المبلغ يعزّز السيولة وبالتالي يساهم في التخفيف من حدة الانهيار الاقتصادي على المدى القصير، إلا أنه يأتي من دون أي شروط مسبقة للاستخدام أو الرقابة، مما يثير مخاوف بشأن كيفية استخدام هذه الأموال وتخصيصها. 

    لبنان يواجه إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية في التاريخ الحديث،2  وقد انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى أدنى مستوياته منذ 20 عامًا، وازداد الفقر المدقع أكثر من ثلاثة أضعاف في أقل من عامين.3  الانهيار الاقتصادي في جوهره، متجذر في أزمة حوكمة وسوء إدارة وفساد واستيلاء ذوي النفوذ على الموارد والثروات وغياب الثقة في الحكومة. وقد ثبت أن تراكم هذه المتغيرات شكّل مأزقًا كبير في المفاوضات بين صندوق النقد الدولي والحكومة اللبنانية، لا سيما بشأن استعداد الأخيرة للموافقة على الإصلاحات اللازمة للحصول على قروض تعافي من صندوق النقد الدولي يضاهي حجمها المخصصات المتوقعة في الشهر المقبل. 

    منذ بداية الأزمة عام 2019، لم تكن الحكومة اللبنانية قادرة أو مستعدة لاتخاذ أي خطوات لوقف نزيف الدولارات التي تشتدّ الحاجة إليها للاستيراد، بما في ذلك إصدار قانون مراقبة رأس المال (capital control law) وإعادة هيكلة الديون والقطاع المالي. بدلًا من ذلك، وللتخفيف من أثر انخفاض قيمة العملة على أسعار الاستهلاك، وضعت الحكومة نظام دعم مكلفًا وغير عادل،4  نُفِّذ في ظلّ رقابة تشغيلية أقلّ ما يُقال فيها إنها محدودة، ما جعله عرضة إلى سوء الاستخدام.5  إلى جانب خروج رؤوس الأموال من البلاد بصورة غير مقيّدة6  وتوقعات تدهور الأوضاع المالية، ساهم الدعم في استمرار استنزاف العملات الأجنبية وتدهور قيمة الليرة من 1515 ليرة لبنانية لكلّ دولار أميركي إلى 20500 ليرة لبنانية لكلّ دولار أميركي (بتاريخ 23 تموز/يوليو 2021). بحلول نهاية شهر حزيران/يونيو 2021، ارتفعت أسعار المنتجات الغذائية وحدها بشكل تراكمي بمقدار عشرة أضعاف مقارنة بشهر أيلول/سبتمبر 2019، وهو أثر طال الفئات ذات الدخل المنخفض بشكل خاص.7 

    في الأشهر الأخيرة، أدّى الرفع الجزئي للدعم إلى ارتفاع متسارع في أسعار الاستهلاك وتفاقم النقص في الأدوية والوقود، الأمر الذي يعكس سوء الإدارة الجسيم للأزمة ويبرز الإخفاقات التاريخية في توفير البنية التحتية اللازمة لتوليد الطاقة وفي إنشاء نظام نقل عام فعّال. بالإضافة إلى ارتفاع مستويات انعدام الأمن الغذائي، يعرّض النقص في الوقود والأدوية والسلع الأخرى حاليًا تقديم الخدمات الأساسية للخطر، بما في ذلك توفير المياه والاستشفاء والتعليم. 

    في ظل هذا الواقع المظلم، من الواضح أن البرامج الإنسانية لحماية الأسر الضعيفة لها الأولوية في تخصيص المساعدات غير المشروطة. ومع ذلك، يبقى من الجائز التساؤل حول ما إذا كان الإنفاق غير المشروط من قبل دولة غارقة في الفساد هو أفضل مسار للعمل، لا سيما نظرًا إلى عدم وجود أدلة حول أثر برامج المساعدات الاجتماعية السابقة التي طبقتها الحكومة.

    على سبيل المثال، فإن استخدام الأموال لتمويل ما يسمّى بـ "البطاقة التموينية"، كاستجابة لرفع الدعم عن المواد الأساسية، قد يوفر الإغاثة لما يصل إلى نصف مليون أسرة.8  ومع ذلك، في ظلّ عدم وجود آلية تنفيذ واضحة، بما في ذلك آلية تحديد الأسر المؤهلة، يبرز خطر سوء تخصيص الأموال من قبل الطبقة الحاكمة التي أثبتت مرارًا وتكرارًا قدرتها على ارتكاب مخالفات من دون التعرّض للمساءلة. في الواقع، عندما انتشر خبر الاستجابة العالمية التي يخطّط لها صندوق النقد الدولي لمواجهة جائحة فيروس كورونا (كوفيد-١٩) للمرة الأولى، ذُكر لبنان كإحدى الحالات المحتملة حيث يمكن أن يؤدي ضخّ حقوق السحب الخاصة غير المشروطة إلى ثني جهود الإصلاح في البلدان الهشّة المشلولة بسبب مستويات الفساد العالية وعرقلة جهود الدولة وسوء الإدارة العامة.9 

    كذلك، فإن القرارات الخاطئة قد تسبب ضررًا أكبر من منفعة، نظرًا إلى عدم استقرار سعر الصرف. فعلى سبيل المثال، الاحتفاظ بالعملات الأجنبية التي يتم الحصول عليها بعد مبادلة حقوق السحب الخاصة المخصصة للبنان وتقديم ما يعادل قيمتها على شكل قسائم طعام بالعملة المحلية وبسعر محدد مسبقًا، كما هو مقترح في قانون البطاقة التموينية، يؤدي إلى مخاطر اقتصادية ومعنوية كبيرة. فالقسائم التي يتم صرفها لاحقًا مقابل الليرة اللبنانية قد تسرّع التضخم، كما أنّها تقوّض كرامة المستفيدين من خلال الحدّ من قدرتهم على إنفاق المال النقدي وفقًا لاحتياجاتهم، أي على الرعاية الصحية والإيجار والملابس والفواتير. 

    وتتّضح تلك المخاطر الاقتصادية بشكل أكبر في حال عدم تنفيذ إصلاحات موازية فورية لإبطاء تراجع قيمة العملة، وقد يتبين أن القيمة التي ستقدمها البطاقة التموينية ضئيلة جدًا مقارنة باحتياجات الأسر الضعيفة. تشير البيانات المتعلقة بأسعار الاستهلاك الحالية إلى أن الأسرة المؤلّفة من خمسة أفراد تحتاج إلى أكثر من ثلاثة أضعاف الحد الأدنى للأجور لتغطية التكلفة الشهرية لوجبة رئيسية واحدة في اليوم،10  في وقت يعيش فيه أكثر من ثلاثة أرباع السكان على دخل يتخطى الحد الأدنى بشكل طفيف.11 

    بناءً على ذلك، لا يمكن لخطط تمويلية بقيمة 860 مليون دولار أميركي أن تقلل من شأن خصوصيات سياق الأزمة في لبنان أو الأسباب الهيكلية الكامنة وراءها. في هذا الصدد، من المهم الإجابة على سؤالَين قبل إجراء التخصيص:
    1. ما الدور الذي يمكن أن تلعبه المنظمات الدولية والمجتمع المدني في ضمان عدم سوء إدارة الأموال أو سوء توزيعها؟
    2. هل ينبغي تخصيص الأموال للمساعدات الإنسانية العاجلة القصيرة الأمد، أم لمشاريع طويلة الأمد من شأنها أن تقلل من حاجة لبنان إلى العملات الأجنبية وتحلّ نقاط الضعف الهيكلية التي طال أمدها؟ 

    من المؤكد أنه لا توجد إجابات سهلة على هذين السؤالين، خاصة في وقت تشهد فيه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تقلبًا مستمرًا، ويستمر فشل مؤسسات الدولة في الإفصاح بوضوح عن مؤشرات رئيسية، كالاحتياطيات المتبقية بالعملات الأجنبية وتكلفة الدعم وبيانات الاستيراد المحدّثة، وغيرها. ومع ذلك، يبقى من الضروري معالجة بعض القضايا قبل تخصيص هذا التمويل، لا سيما أن هذه الأموال، بصرف النظر عن أثرها الاجتماعي والاقتصادي، يمكن إما أن تساهم في إطالة حياة نظام يعتمد على الزبائنية والمحسوبية، أو أن توفر تؤمن مدخل إلى إصلاحات على المدى الطويل.

    في هذه المرحلة، يمكن اتخاذ خطوات وتدابير معينة، مثل: أن يفرض صندوق النقد الدولي على الحكومة اللبنانية الإعلان العام عن استراتيجية استعمال التمويل؛ إشراك المجتمع المدني في إنشاء آلية رقابة على الأموال؛ وحشد دعم المانحين الدوليين لضمان استراتيجية تعافي اقتصادية شفافة وفعالة (من خلال التعهد بتقديم أموال تعادل قيمة مخصصات صندوق النقد الدولي مقابل فرض شروط الرقابة والشفافية باستخدام الأموال، على سبيل المثال). 

    في أعقاب انفجار مرفأ بيروت، شدد البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة على ضرورة "اتخاذ إجراءات حاسمة" لإنقاذ لبنان من أزماته المتعددة.12  وبعد مرور عام، لا تزال هذه الحاجة قائمة على الرغم من فشل الحكومة اللبنانية في تولّي زمام القيادة. في الوقت الذي يستعد فيه صندوق النقد الدولي لتسليم الحكومة أكبر حزمة من المساعدات الدولية منذ بداية الأزمة، يبقى السؤال الحقيقي: من المستعد لاستلامها؟ 



    1- أنشأ صندوق النقد الدولي حقوق السحب الخاصة لتكون بمثابة أصول احتياطية دولية. فعلى الرغم من أنها ليست عملة فعلية، تتيح هذه الحقوق لحامليها المطالبة بمبادلتها بعملة يعتمدها أحد أعضاء صندوق النقد الدولي، وبهذا المعنى، يمكن أن تعزز السيولة في بلدٍ ما عند ضخّها.
    2- البنك الدولي، مرصد الاقتصاد اللبناني، (ربيع العام 2021).
    3- منظمة العمل الدولية واليونيسف، نحو أرضية حماية اجتماعية في لبنان (آذار/مارس 2021). 
    4- المركز اللبناني للدراسات واليونيسف، بعد انتهاء الدعم في لبنان: الحاجة إلى استراتيجية جامعة وشاملة للحماية الاجتماعية (حزيران/يونيو 2021). 
    5- تشير الروايات المتناقلة إلى أن بعض الواردات المدعومة أعيد تصديرها بالدولار الأميركي أو تمّ تخزينها من قبل الموزعين تحسّبًا لمزيد من التضخم أو رفع الدعم.
    6- تجاوز العجز في ميزان المدفوعات 10.5 مليارات دولار أميركي عام 2020 (مصرف لبنان)، فيما تراوحت تقديرات تكلفة الدعم بين 3.3 و3.6 مليارات دولار أمريكي. (اليونيسف؛ البنك الدولي)
    7- المركز اللبناني للدراسات واليونيسف، بعد انتهاء الدعم في لبنان: الحاجة إلى استراتيجية جامعة وشاملة للحماية الاجتماعية (حزيران/يونيو 2021). 
    8- المونيتور. «مجلس النواب اللبناني يقرّ دعمًا نقديًا بقيمة 556 مليون دولار أميركي». 1 تموز/يوليو 2021. تمت زيارة الموقع في 29 تموز/يوليو 2021
    9- انظر على سبيل المثال، فورد، كايلين. «ما هي حقوق السحب الخاصة ولماذا تُعتبَر موضوعًا شائكًا في اجتماع صندوق النقد الدولي؟» 6 نيسان/أبريل 2021. تمت زيارة الموقع في 29 تموز/يوليو 2021. 
    10- الجامعة الأميركية في بيروت، مرصد الأزمة اللبنانية (تموز/يوليو 2021)
    11- المرجع نفسه.
    12- البنك الدولي، والأمم المتّحدة، والاتحاد الأوروبي. «تحرّك حاسم لإصلاح وإعادة بناء لبنان بشكل أفضل». 31 أآب/غسطس 2020. تمت زيارة الموقع في 29 تموز/يوليو 2021.
                   
    فادي نقولا نصّار
    زميل باحث في المركز اللبناني للدراسات. تُركِّز أبحاثه على التدخّلات الدولية في مجال العمل الإنساني والإغاثة ضمن السياقات الهشّة والمناطق التي تشهد نزاعات، والإنتفاضات الشعبية والتحُركات الإجتماعية، والسياسة اللبنانية والشرق- أوسطية. وهو أستاذ مساعِد في العلوم السياسية والشؤون الدولية ومدير معهد العدالة الإجتماعية وحلّ النزاعات في الجامعة اللبنانية الأميركية. فادي حائز على درجة دكتوراه من قسم دراسات الحروب في كلية كينغز كولدج في لندن، كما أنَّه خرّيج كلية إدموند ا. والش لدراسات الخدمة الخارجية بجامعة جورج تاون، ونالَ درجة ماجستير في الإدارة العامة من جامعة كولومبيا
    وليد صايغ
    متخصص في السياسات الاقتصادية والاجتماعية في منظمة اليونيسف في لبنان
    سارة هيغ
    .رئيسة قسم السياسة الاجتماعية لمكتب اليونيسف في لبنان
Sign up for our Newsletter
Thank you for subscribing to our newsletter!