• سياسة
    أبريل 11، 2025

    خمسون عاماً على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية: هل لا تزال المعرفة مهمة؟

    • جيفري ج. كرم
    خمسون عاماً على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية: هل لا تزال المعرفة مهمة؟
    المصدر: دار المصور - رمزي حيدر

    يتزامن تاريخ 13 نيسان/أبريل 2025 مع الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وتأتي هذه الذكرى في سياقٍ من الانهيار الاقتصادي والاستنزاف السياسي والتدهور في المؤسّسات. طُوِيَت صفحة الحرب رسميًا، لكنَّ ركائزها لا تزال متجذّرة بعمق وتتجلّى من خلال الجهات التي تتولّى زمام السلطة، وكيفية تجنُّب القرارات، والحقائق التاريخية التي يُسمَح بسردها.

     

    وفيما تُقام التذكارات وتُنشَر التقارير وتُشير عناوين الأخبار بإيجاز إلى الماضي، يبرزُ سؤالٌ أعمق: ماذا يعني أنَّنا قضينا عقودًا رافضين أن نعرف حقيقة هذه الحرب؟ وما هي الاحتمالات التي ستبقى مغلقة إلى حين استكشاف هذه الحقائق؟

     

    حول الصمت والمعرفة وهندسة النسيان

    خمسون عامًا مضت على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. وهذا النزاع الذي دامَ خمسة عشر عامًا، وأعادَ تشكيل كلّ مؤسّسات البلد، ما زالَ يلعبُ دورًا أساسيًا في تحديد الحياة السياسية في لبنان حاليًا، وليس فقط من خلال الموروثات التي خلّفتها الحرب، بل من خلال أنظمة النسيان المتجذّرة في الواقع اللبناني. لم يُواجَه عنف الحرب بشكلٍ هادف؛ بل تمّ إرجاء هذه المواجهة مرارًا وتكرارًا، وطُمِسَت الحقائق، وصولًا إلى استغلال مخلّفات الحرب في نهاية المطاف.

     

    فهل ما زالت المعرفة مهمّة؟ يقع هذا السؤال - الأخلاقي والسياسي والمؤسّسي – في صميم وضع لبنان ما بعد الحرب. فإنَّ رفض الاعتراف بتاريخ الحرب ليس ناتجًا عن صدمة أو إرهاق ثقافي، بل هو استراتيجية حُكم. وقد ولَّدَ هذا الرفض نظامًا سياسيًا زائفًا: نظامٌ يُعيد تشكيل نُخَب الحرب، ويُعطِّل المساءلة العامّة، ويُحافِظ على سلام هشّ مبنيّ على الصمت.

     

    سرد التاريخ من خلال التغييب

    يبدأ معظم اللبنانيين بخوض ذاكرة الحرب من خلال التغييب: قصصٌ مقتضبة، وصورٌ بلا سياق، وسردياتٌ مؤسّسيةٌ لا تُعبِّر إلّا بالقليل أو لا تُعبِّر إطلاقًا. فالأرشيفات، إن وُجِدَت، يكتنفُها الغموض. وتبقى السجلّات الرئيسية سرّيةً، أو تُتلَف، أو تُحجَب ببساطة. أمّا مراكز التوثيق الأجنبية - من الولايات المتّحدة إلى فرنسا والمملكة المتّحدة وغيرها - فتُتيح الوصول إليها بشكلٍ انتقائيّ، بناءً على الأولويات الاستراتيجية وليس الأمانة التاريخية الحقيقية.

     

    لا يقتصر الأمر على مجرّد فقدان الوثائق، بل يعكس التوزيع غير المتكافئ للمصادر التاريخية - مَنْ يكتب التاريخ ومن تُحجَب ذكرياته. وفي ما عدا بعض الاستثناءات الطفيفة، لا تزال عملية إنتاج المعرفة المتعلّقة بالحرب قائمةً على التحالفات الطائفية والجيوسياسية والأكاديمية التي تعزل السلطة وتُجزِّئ الحقيقة.

     

    وأيّ محاولة جدّية لمعالجة إرث الحرب يجب أن تبدأ بتمكين الوصول النقدي والشامل إلى التاريخ. وهذا يعني رفع السرّية عن الوثائق الرسمية، والاستثمار في البنية الأساسية للأرشيف العام والمحلّي، وحماية جهود المجتمع المدني التي تُوثِّق جرائم الحرب، والشهادات الشخصية، والمفقودين. فهذه ليست تفاصيل أكاديمية تكميلية، بل هي شروط أساسية لإعادة بناء الثقة المؤسّسية.

     

    ذاكرة ما بعد الحرب كسياسة

    صُمِّمَ نظام ما بعد الحرب بناءً على مبدأ طيّ صفحة الماضي وعدم التذكير به. فقانون العفو الذي صدرَ في عام 1991 تحت شعار المصالحة، كانَ في الواقع ذريعةً قانونية للإفلات من العقاب. عفا القانون رقم 84/91 عن الجرائم السياسية والجرائم المتعلّقة بالحرب، بما فيها القتل والاختطاف والتهجير القسري، المُرتكَبة قبل 28 آذار/مارس 1991. ودخلَ قادة الميليشيات السابقون في مضمار السياسة الرسمية بدون أيّ رقيب أو حسيب. لم يتمّ تشكيل أيّ لجنة لتقصّي الحقائق، ولم تُقدَّم أيّ تعويضات، كما أنَّ المنهج الدراسي الوطني لم يخضع لأيّ إصلاح. كذلك، لم يتمّ الاعتراف بالمفقودين الذين يُقدَّر عددهم بحوالي 17 ألف شخص.

     

    وبعد ذلك، سادت سياسةٌ قائمة على إدارة النسيان. فنظام تقاسُم السلطة المُقنَّن بموجب اتّفاق الطائف عام 1989 لم يُوقِف القتال فحسب؛ بل أحبطَ الذاكرة الجَمَاعية، وذلك لأنَّ توضيح الحقائق التاريخية كانَ ليُهدِّد الوِفاق الذي سمحَ لمُدبِّري الحرب بالتحكُّم في عواقبها.

     

    بالتالي، أصبحَ النسيان جزءًا من الحوكمة – ليسَ مجرّد ثغرة ثقافية، بل استراتيجية مدروسة. ومع ذلك، لا يزال بإمكان السياسات أن تؤدّي دورًا تصحيحيًا. فإعادة النظر في المناهج – ولا سيّما كتاب التاريخ الذي لا يزال متوقّفًا عند عام 1975 - ودعم أساليب التدريس النقدية، ومواجهة سرديات الحرب المتعدّدة؛ كلّها خطوات عملية مُمكنة. الهدف ليسَ فرض سردية موحّدة، بل منع الصمت المؤسّسي.

     

    أبعد من الإطار المحلّي: التشابُكات الإقليمية والإمبريالية

    غالبًا ما تُختزَل الحرب وتوضع في إطار انهيار التعايش الطائفي. لكنَّ هذا التأطير يُغفِل حقيقة أنَّ لبنان شكَّلَ ساحةً استراتيجيةً لنزاعات الحرب الباردة، والعدوان الإسرائيلي الإقليمي وفظائعه، والوصاية السورية، والتشابُكات الإمبريالية الأوسع. لم تكن هذه الجهات الفاعلة، وغيرها من الجهات الأجنبية الكثيرة، مُشارِكةً في الخلفية فحسب، بل رسمت أُسُس الصراع.

     

    إنَّ التحليل التاريخي في فترة ما بعد الحرب قد جرَّدَ هذا البُعد من طابعه السياسي إلى حدٍّ كبير، ونادرًا ما صَوَّرَ التأثير الخارجي على أنَّه أكثر من مجرّد تدخُّل حتمي. فإمدادات الأسلحة، وشروط الجهات المانحة، وتنسيق المخابرات، وعقود إعادة الإعمار، هي في الواقع عوامل أساسية في كيفية خوض الحرب وكيفية بناء النظام ما بعد الحرب. ولقد بدأت بعض الدراسات الجديدة والناشئة في تحليل دور الأطراف الإقليمية والدولية في الحرب الأهلية اللبنانية بشكل جدّي، واضعةً إيّاه ضمن أنماط أوسع من التدخّل العسكري والسياسي الأجنبي.

     

    ليسَ لبنان فريدًا في هذا الصدد. فالدول الخارجة من النزاعات، مثل البوسنة والعراق والسلفادور، تكشف أيضًا كيف أنَّ الحرب بالوكالة والمفاوضات الدولية غالبًا ما تُفضي إلى تسويات سياسية غير مستقرّة. ومن أجل مواجهة حقائق الحرب اللبنانية، لا بدَّ من رصد هذه التشابُكات. ويجب على الأوساط السياساتية والبحثية في لبنان - قبل أيّ مكان آخر - أن تأخذ زمام المبادرة في دعم عملية إعادة التأطير هذه، وذلك بهدف فهم الأبعاد العالمية للحرب وتأثيرها المستمرّ حتّى اليوم.

     

    المعرفة كممارسة عملية

    إنَّ عواقب رفض مواجهة الماضي لا تقتصر على السجلّ التاريخي. فقد أنتجَ هذا الرفض ثقافةً سياسيةً تُناهِض المساءلة والمحاسبة، وتعمل على تطبيع الإفلات من العقاب، وتفرض قيودًا هيكلية على المعارضة. فالمؤسّسات لا تُعاني من الفساد أو سوء الإدارة فحسب، بل من انفصالٍ جذريّ عن الحقيقة.

     

    في هذا السياق، ليس العمل على الذاكرة رمزيًا، بل هو فعلٌ سياسيّ يُلغي الظروف التي تُتيح التنصُّل من العنف وإعادة توزيعه. وهنا، يخوضُ الفنّانون والمؤرِّخون وأصحاب المبادرات المحلّية التي تسعى إلى حفظ الشهادات وكشف التواطؤ، شكلًا من أشكال الإصلاح الديمقراطي. ونادرًا ما حظيَ عملهم بالدعم اللازم، وكثيرًا ما عُرقِلَ عمدًا.

     

    لذلك، فإنَّ خطط الإصلاح التي لا تُعالِج هذا الشرخ المعرفي تظلّ سطحية، كما أنَّ عملية إعادة بناء المؤسّسات التي تتجاهل التاريخ لن تؤدَّيَ سوى إلى إعادة إنتاج الخلل الذي تدّعي إصلاحه. فالعدالة الانتقالية ليسَت مجرّد تفصيلٍ ثانوي بعد النزاع، بل هي حاجة هيكلية أساسية.

     

    المواجهة كإصلاح: ما الذي ينبغي فعله؟

    إنَّ معالجة إرث الحرب لا تقتصر على الاعتراف به، بل تتطلّب تدخلّات هيكلية وسياساتية في مجالات التعليم، والوصول إلى الأرشيف، وآليات العدالة:

     

    • إصلاح التعليم حول التاريخ

    ينبغي تحديث المناهج الوطنية لتعكس روايات دقيقة ومتعدّدة المنظورات للحرب؛ ودعم تدريب المعلّمين حول التثقيف التاريخي، والأخلاقيات المدنية، والتفكير النقدي. لقد فشلت محاولةٌ بين عامَيْ 1997 و1999 لوضع كتاب تاريخ موحّد بسبب عوائق سياسية؛ ويجب حماية الجهود المستقبلية من الفيتو الطائفي.

     

    • تمكين الوصول العام إلى الأرشيف

    ينبغي رفع السرّية عن الوثائق الرئيسية، ولا سيّما تلك المتعلّقة بالاختفاءات والتدخّلات الأجنبية؛ وتمويل الأرشيفات المستقلّة والمجتمعية وحمايتها، مثل مركز "أمم" للتوثيق والأبحاث ومنظّمة "لنعمل من أجل المفقودين"، التي لا يزال عملها بخطر في غياب الدعم المؤسّسي.

     

    • دعم سرد الحقائق والعدالة التي تُركِّز على الضحايا

    ينبغي إضفاء الطابع المؤسَّسي على عملية جمع الشهادات، لا سيّما من عائلات المفقودين والناجين؛ والبناء على الأُطُر القانونية القائمة - مثل القانون رقم 105 (2018) بشأن المفقودين والمخفيّين قسرًا - وضمان حصول "الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيّين قسرًا" على الدعم السياسي والمالي الكامل.

     

    • إدراج لبنان ضمن الأبحاث المُقارَنة

    إدراج حرب لبنان في إطار دراسات أوسع نطاقًا تتناول التدخّل الأجنبي، والحوكمة ما بعد النزاع، والعدالة الانتقالية. يمكن للشراكات مع باحثين إقليميين والدراسات المُقارَنة - مثل لجان تقصّي الحقائق في الأرجنتين أو عمليات إحياء الذكرى في رواندا - أن تُقدِّم لنا تنبيهات وتوجيهات قيّمة.

     

    • ترسيخ الإصلاح المؤسّسي في عمل الذاكرة

    يجب على أيّ مبادرة لبناء الدولة أو أيّ مبادرة للإصلاح السياسي أن تتناول بشكلٍ جدّي ماضي البلد غير المُعالَج. فبدون الحقيقة، لا يمكن تفعيل المرونة المؤسّسية ولا المساءلة أو المحاسبة.

     

    ما بعد أنقاض الحرب

    بعد مرور خمسين عامًا، لا يزال لبنان يتأرجح بين المعرفة والجهل - بين دولةٍ ترفض ماضيها وجمهور يزداد وعيًا بأهمية هذا التاريخ. نحن لا نحتاج إلى شعارات تذكارية، بل إلى مواجهةٍ مع الهياكل السياسية التي رسّخت آفة النسيان.
    السؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت المعرفة مهمّة، بل ما إذا كُنّا مستعدّين لقبول ما تتطلّبه المعرفة، وما إذا كانَ الذين استفادوا من فقدان الذاكرة مستعدّين للتخلّي عن الحماية التي وفّرها لهم هذا النسيان.

    جيفري ج. كرم

     أستاذ مُساعِد في مادّة العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الأمريكية، وباحث في مركز سياسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجامعة برلين الحرّة وفي المركز اللبناني للدراسات. وهو أيضًا عضو في أكاديمية برلين-براندنبورغ المرموقة للعلوم والإنسانيات، من خلال الأكاديمية العربية-الألمانية للشباب في العلوم والإنسانيات. عملَ كرم في عدّة زمالات بحثية ما بعد الدكتوراه كما شغلَ منصب خبير زائر في جامعة هارفارد، وجامعة بوسطن، ومؤسّسة روزا لوكسمبورغ. تتطرّق أبحاثه إلى قضايا المخابرات والسياسات الخارجية، والثورات/الثورات المضادة، والتحوّل السياسي في غرب آسيا وشمال أفريقيا. وهو محرّر الشرق الأوسط عام 1958، كما شاركَ في تحرير انتفاضة لبنان عام 2019 والنظام الاستبدادي العالمي. تُنشَر أعماله في صحيفة الدراسات العربية، وصحيفة الاستخبارات والأمن القومي، وصحيفة واشنطن بوست، وصحيفة "جدليّة". وهو حاليًا بصدد إنهاء كتابه الذي يتناول العمليات السرّية الأمريكية وإنتاج المعرفة في العالم العربي. ويمكن متابعته على منصّة "اكس" عبر الحساب التالي: @JGKaram

اشتركوا في نشرتنا الإخبارية
شكرًا للإشتراك في نشرتنا الإخبارية