-
اقتصادسبتمبر 10، 2025
سدّ الفجوات: خريطة طريق لمعالجة التفاوت في الدخل في لبنان
- لينا س. مدّاح، وائل الأشقر، أندريوس نعيمة
المصدر: ألين لوفاي / هانس لوكاس / هانس لوكاس عبر أ ف بالتفاوت في الدخل ليسَ مجرّد تحدٍّ اقتصادي، بل هو أزمة مجتمعية تؤدّي إلى زعزعة الثقة، وتفاقُم حدّة الفقر، وتهديد الاستقرار الوطني. ويشهد لبنان اليوم واحدةً من أشدّ الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في العالم، نتيجة عشرات السنوات من سوء الإدارة السياسية، والفساد، واعتماد نموذج اقتصادي مغلوط. تفاقمت تداعيات هذه الأزمة بسبب تفشّي جائحة كوفيد-19، وانفجار مرفأ بيروت، ومرور البلد بفترة طويلة من الشلل السياسي، ما جعل آثارها واضحة في مختلف جوانب الحياة. ويتحمّل الفقراء العبء الأكبر لهذه الاضطرابات المتواصلة، فيما يبقى الأثرياء مُحصَّنين، فتستمرّ دوّامة التفاوت التي تُهدِّد التماسك الاجتماعي، وتحدّ من إمكانات التعافي على المدى البعيد.
أزمة التفاوت وانعدام المساواة
شَهِدَ "مُعامِل جيني" في لبنان، الذي يُستخدَم لقياس التفاوت في الدخل، تدهورًا ملحوظًا، إذ ارتفعَ من 0.32 في عام 2011 إلى 0.61 في عام 2023[1]. وقد تصاعدت معدّلات الفقر، حيث باتَ ما يُقارِب نصف السكّان تحت خطّ الفقر. وتُؤثِّر هذه الأزمة بشكل غير متناسب في المناطق الريفية، مثل عكار وشمال لبنان، حيث تَصِل معدّلات الفقر إلى 70%[2] و56% على التوالي. في المقابل، تُسجِّل المُدُن مثل بيروت مستويات فقر أدنى بكثير، ما يُبرِز الاختلاف الحادّ بين المناطق، الذي يؤدّي إلى تفاقم أزمة التفاوت وانعدام المساواة.
وقد ساهمَ الانهيار الاقتصادي أيضًا في تقليص الطبقة الوسطى التي باتت تُشكِّل أقلّ من 20% من السكّان. وبلغت أزمة الأمن الغذائي مستوياتٍ مُقلِقَة، حيث باتَ يُعاني أكثر من نصف مليون شخص في لبنان من صعوبة تأمين احتياجاتهم الغذائية الأساسية. كذلك، أدّى التضخّم، الناتج من تدهور قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 99%، إلى تآكُل القدرة الشرائية، ما جعلَ السلع والخدمات الأساسية غير متاحة لشريحة واسعة من السكّان.
نقاط الضعف الهيكلية
تمتدّ نقاط الضعف الهيكلية في لبنان على عدّة أبعاد، ما يؤدّي إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية-الاقتصادية وزيادة التفاوت في الدخل. ويُعَدّ النظام الضريبي أحد العوامل الأساسية التي تُسبِّب هذه التفاوتات، نظرًا لاعتماده على الضرائب التنازلية مثل ضريبة القيمة المضافة التي تفرض عبئًا أكبر على شرائح المجتمع ذات الدخل المحدود. في المقابل، تبقى الضرائب على أرباح الشركات ثابتة عند نسبة 17%، ما يحدّ من إعادة توزيع الثروات. والواقع أنَّ الثغرات القانونية، مثل قانون السرّية المصرفية والإعفاءات على الأرباح الرأسمالية، تسمح بانتشار ظاهرة التهرُّب الضريبي على نطاق واسع. فكانت الإيرادات الضريبية قبل الأزمة تُشكِّل 15% فقط من الناتج المحلّي الإجمالي، لكنَّها تراجعت بعد ذلك، ما يحدّ من قدرة الحكومة على تمويل الخدمات الأساسية.
يعكس سوق العمل هشاشة الاقتصاد اللبناني، حيث ازدادت ظاهرة العمل غير المُنظَّم[3] من 55% في عام 2018 إلى 62% في عام 42022، ما يحرم شريحة واسعة من العمّال أيَّ حماية قانونية أو منافع اجتماعية أو استقرار وظيفي. وفي السياق نفسه، بلغت نسبة البطالة لدى الشباب مستويات مُقلِقة، إضافةً إلى أنَّ المرأة تُواجِه أيضًا عوائق هيكلية تَحول دون مشاركتها الفعّالة في سوق العمل، حيث لم تتجاوز نسبة مشاركتها 22% في عام 2022، مقارنةً بنسبة 66% للرجال[4]. ولا تزال فجوة الأجور قائمة بين الجنسَيْن، فيما تفرض الممارسات التمييزية قيودًا تحدّ من الفُرَص المتاحة للنساء والفئات المهمّشة الأخرى.
ومع تفاقم الضائقة الاقتصادية، ازدادت الاضطرابات الاجتماعية. فعدم تكافؤ الفُرَص بين الفئات الاجتماعية يؤدّي إلى تأجيج التوتّرات، وارتفاع معدّلات الاحتجاجات، وتزايُد نسبة الجريمة. فقد ارتفعَ عددُ الجرائم المُسجَّلة من 2403 في عام 2019 إلى 7600 في عام 2021، فيما زادت حالات السرقة بنسبة 58% خلال الفترة نفسها. وعلى الرغم من التراجع الطفيف في معدّلات الجريمة أخيرًا، إلّا أنَّ تصاعُد حالة اليأس بين الفئات المحرومة لا يزال يُهدِّد استقرار المجتمعات[4].
يُعَدّ الأطفال من أكثر الفئات تضرُّرًا من الأزمة. فقد ازدادت نسبة عدم التكافؤ في وصولهم إلى التعليم، حيث تُعاني المدارس الرسمية من صعوبة استيعاب العدد المتزايد من الطلّاب القادمين من المؤسّسات الخاصّة. وتبرز الفجوات بين المناطق بشكل ملحوظ، إذ تُسجِّل المناطق الريفية معدّلات أعلى من التسرُّب المدرسي[5]. كذلك، يُعتبَر تأمين الرعاية الصحّية للأطفال مصدر قلق كبير، حيث انخفضت معدّلات التلقيح بنسبة 31%، فيما ارتفعَ معدّل وفيات الأطفال دون سنّ الخامسة من 14 حالة وفاة لكلّ 1000 ولادة حيّة في عام 2018 إلى 17.4 في عام 72022.
كذلك، تدهورت معدّلات سوء التغذية، إذ يُعاني 7% من الأطفال من التقزُّم، فيما يفتقر أكثر من 90% من الأطفال دون سنّ العامَيْن إلى التنوّع الغذائي الكافي. وتبقى برامج الحماية الاجتماعية، مثل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المخصّص للعاملين في القطاع الخاصّ، غير كافية، إذ لا تُغطّي سوى 10% من تكاليف الرعاية الصحّية، فتضطرّ الأُسَر إلى تحمُّل العبء الأكبر من النفقات الطبّية المتزايدة[6].
في المقابل، يُواجِه المستفيدون من البرامج العامّة، مثل تعاونية موظّفي الدولة والصناديق المخصّصة للقوى الأمنية، قيودًا كبيرة بسبب التدهور الحادّ في قيمة العملة الوطنية، ما أدّى إلى تراجُع كبير في قيمة المنافع التي يحصلون عليها. بالتالي، فإنَّ هذه الإخفاقات الهيكلية، بدءًا بالضرائب، وصولًا إلى أسواق العمل، ومرورًا بالخدمات العامّة وشبكات الحماية الاجتماعية، تُؤكِّد الحاجة المُلِحَّة إلى القيام بإصلاحات شاملة تهدف إلى معالجة التفاوت في الدخل وتعزيز العدالة والإنصاف في المجتمع.
التوصيات للسياسات العامّة
الإصلاحات الاقتصادية
من أجل مواجهة التحدّيات الاقتصادية الهيكلية، يجب على لبنان اعتماد نظام ضريبي تصاعدي على رأس أولوياته، فيضمن هذا النظام مساهمة عادلة من الفئات ذات الدخل المرتفع والشركات. كذلك، يُعتبَر إقرار قوانين رفع السرّية المصرفية وسدّ الثغرات الضريبية على الأرباح الرأسمالية أمرَيْن ضروريَّيْن لزيادة الإيرادات العامّة. ويجب أن تُركِّز إصلاحات الدعم على استبدال الدعم الشامل بتحويلات نقدية مُستهدَفة، بناءً على سجلّات اجتماعية شفّافة لضمان المحاسبة والمساءلة. كذلك، لإعادة بناء الثقة في المؤسّسات المالية، لا بدّ من تعزيز الممارسات المصرفية الشفّافة وإجراء عمليات تدقيق مستقلّة. وينبغي أن تسعى السياسات الصناعية لتشجيع نموّ المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة، وإضفاء الطابع النظامي على الأنشطة الاقتصادية.
الحماية الاجتماعية والرعاية الصحّية
يُعَدّ توسيع نطاق برامج الحماية الاجتماعية أمرًا ضروريًا لدعم الفئات الأكثر هشاشةً. ويجب تنفيذ نظام تغطية صحّية شاملة يضمن توفير التأمين الصحّي الأساسي لجميع المواطنين. وفي هذا الإطار، يجب تعزيز مراكز الرعاية الصحّية الأوّلية، ولا سيّما في المناطق الريفية، لضمان وصول المواطنين بشكلٍ عادل إلى الخدمات الصحّية. ويجب أن تُركِّز البرامج الغذائية على معالجة مشكلة سوء التغذية لدى الأطفال، بالتزامن مع تأمين الدعم الدولي اللازم لرفع معدّلات التلقيح وعودتها إلى مستوياتها السابقة ومنع انتشار الأمراض. والجدير بالذكر أنَّ التحوُّل الرقمي لأنظمة الحماية الاجتماعية من شأنه أن يُساهِم في تبسيط آليات التطبيق، والحدّ من حالات الازدواجية، وتحسين الكفاءة في التنفيذ.
تعزيز الوصول إلى التعليم وتحسين جودته
لمعالجة التفاوت في التعليم، يجب توسيع القدرة الاستيعابية في المدارس الرسمية لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الطلّاب المنتقلين من المؤسّسات الخاصّة. وينبغي توفير الدعم المالي لتأمين المستلزمات المدرسية، والمواصلات، والوجبات الغذائية، بهدف تشجيع الالتحاق والاستمرار في الدراسة. كذلك، من الضروري مراجعة المناهج الدراسية للتركيز على تنمية التفكير النقدي والمهارات العملية المطلوبة، بما يضمن تأهيل الطلّاب بشكل أفضل للانخراط في سوق العمل. ويجب أن تُركِّز برامج تدريب المعلّمين على التعليم المهني والتقني، بما يتماشى مع المتطلّبات المتغيّرة.
إصلاحات سوق العمل
يحتاج لبنان إلى إقرار حدّ أدنى للأجور يكون مرتبطًا بمعدّلات التضخّم من أجل حماية القدرة الشرائية للعمّال. كذلك، يُعتبَر تنظيم العمل غير المُنظَّم ضروريًا لضمان حصول جميع العمّال على المنافع الاجتماعية والحماية القانونية. ويجب أن تعتمد سياسات التوظيف الشاملة على توفير تصاريح عمل للّاجئين في القطاعات التي تُعاني من نقصٍ في اليد العاملة، مع الحرص على حماية مصالح العمّال المحلّيين. وتجدر الإشارة إلى أنَّ تعزيز المساواة بين الجنسَيْن من خلال توفير خدمات رعاية الأطفال وتطبيق سياسات عمل داعمة سيُؤدّي إلى زيادة مشاركة المرأة في سوق العمل. كذلك، يمكن أن تُساهِم الشراكات مع القطاع الخاصّ في دعم برامج التدريب المهني والتوظيف للشباب.
الحوكمة والشفافية
تعزيز الحوكمة أساسيٌّ لمعالجة التفاوت بين المناطق وتحقيق التنمية العادلة. فينبغي إعادة تخصيص الأموال العامّة للمناطق المحرومة، مع منح الأولوية للبنية التحتية والمبادرات الاقتصادية المحلّية. كذلك، ستُؤدّي اللامركزية في الحوكمة إلى منح البلديات صلاحيات أوسع لتتمكَّن من الاستجابة بفعّالية لاحتياجات مجتمعاتها. ويجب تعزيز دور الهيئات المعنيّة بمكافحة الفساد وتوسيع أنظمة الحوكمة الإلكترونية لتعزيز الشفافية والمساءلة. إضافةً إلى ذلك، يجب أن تكون عمليات صنع السياسات أكثر شمولًا من خلال إشراك منظّمات المجتمع المدني لضمان تلبية احتياجات الفئات المهمّشة.
معالجة أزمة التفاوت والاضطرابات الاجتماعية
للحدّ من الاضطرابات الاجتماعية، يجب على لبنان معالجة أوجه التفاوت الأفقي من خلال ضمان الوصول العادل إلى الموارد والفُرَص. ويُمكن توسيعَ برامج المساعدات الاجتماعية أن يُوفِّر إغاثةً فورية للعائلات الأكثر حرمانًا، كذلك إنَّ الاستثمار في التنمية المناطقية وتعزيز الإنتاج المحلّي سيُساهِمان في خلق فُرَص العمل، والحدّ من التفاوت الاقتصادي، وتعزيز التماسك الاجتماعي والاستقرار.
لا يمكن تحقيق التعافي في لبنان إلّا من خلال الإصلاحات الجريئة والشاملة التي تُعالِج التفاوت الهيكلي وتُعزِّز المرونة. ومن خلال منح الأولوية لتوزيع الموارد بشكل عادل، وتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية، والاستثمار في التنمية الاقتصادية والاجتماعية طويلة الأمد، يمكن لبنانَ أن يُؤسِّس لمستقبل أكثر عدالةً واستدامةً لمواطنيه. فليست هذه المسألة مجرّد ضرورة اقتصادية، بل هي مسؤولية أخلاقية. ومع اعتماد السياسات الملائمة وإيجاد الإرادة الجَمَاعية لتنفيذها، يستطيع لبنان تحويل أزمته الحالية إلى فرصة للنهوض وتحقيق التغيير الإيجابي.
المراجع:
[1] إدارة الإحصاء المركزي، ل.، والبنك الدولي. (2015). Snapshot of Poverty and Labor Market Outcomes in Lebanon Based on Household Budget Survey 2011-2012 (لمحة عن نتائج الفقر وسوق العمل في لبنان استنادًا إلى مسح ميزانية الأُسَر 2011-2012). إدارة الإحصاء المركزي، لبنان والبنك الدولي، واشنطن. http://hdl.handle.net/10986/23797.
[2] البنك الدولي. (2024). تقييم وضع الفقر والإنصاف في لبنان 2024: التغلُّب على أزمة طالَ أمدُها. واشنطن: البنك الدولي. https://documents.albankaldawli.org/ar/publication/documents-reports/documentdetail/099052224104516741 .
[3] تتجلّى ظاهرة العمل غير المُنظَّم بطريقتَيْن: (1) العمل في القطاع غير النظامي: يشمل العمّال الذين يعملون في مؤسّسات غير مُسجَّلة، و(2) العمل غير المُنظَّم في مختلف القطاعات: يشمل العمّال الذين لا يعملون بموجب عقود عمل رسمية أو علاقات وظيفية قانونية، حتّى داخل المؤسّسات المُسجَّلة.
[4] نقلًا عن "الدولية للمعلومات" استنادًا إلى تقارير صادرة عن المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي.
[5] تقييم سريع أجرته اليونيسف يُركِّز على الطفل – كانون الأوّل/ديسمبر 2023.
[6] خصخصة التغطية: تهديدات ناشئة للرعاية الصحّية الشاملة في لبنان. منظّمة العمل الدولية، (19 شباط/فبراير 2024). https://www.ilo.org/resource/article/privatizing-coverage-emerging-threats-universal-healthcare-lebanon
لينا س. مدّاحباحثة اقتصادية رئيسة في المركز اللبناني للدراسات. تشمل مجالات عملها التنمية الاقتصادية المحلية والاقتصاد المناطقي، والجغرافيا الاقتصادية، والمواقع الصناعية، وديناميكيات الشركات، والصناعات الثقافية والإبداعية. في رصيد مدّاح شهادة دكتوراه في الاقتصاد من جامعة روفيرا إي فيرجيلي في إسبانيا، وهي حاليًا أستاذة مساعدة في قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية.
وائل الأشقرباحث اقتصادي في غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان، حائز درجة الماجستير في الاقتصاد التطبيقي ودرجة البكالوريوس في الاقتصاد من الجامعة اللبنانية الأميركية. يُركّز في أبحاثه على ديناميات التجارة وأداء الشركات في مجال التصدير.
أندريوس نعيمةباحث وخبير اقتصادي حائز درجة الماجستير في الاقتصاد التطبيقي من الجامعة اللبنانية الأميركية. أجرى أبحاثًا في موضوعات مختلفة، منها التفاوت في الدخل، ورأس المال البشري، وتأثير أسعار السلع العالمية في الاقتصاد اللبناني. وهو يُدرّس حاليًا مقررات في الاقتصاد في جامعة الحكمة، ويعمل مسؤولًا عن إدارة المعلومات في منظمة أوكسفام.