• Social Issues
    Sep 21, 2021

    لماذا شهدت ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر تراجعاً في أعداد المتظاهرين حتى قبل تفشّي جائحة كورونا؟

    • المركز اللبناني للدراسات

    مقدمة

     

    لقد بدأت ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر بزخم هائل ورغبة عظيمة في التغيير. وأدت التظاهرات الحاشدة والاحتجاجات الواسعة النطاق إلى الإطاحة بالحكومة الطائفية والفاسدة التي كان يترأسها الحريري، والتي جمعت في طياتها مختلف الأحزاب السياسية التي حكمت لبنان على امتداد عقود، وهو ما يعتبر أحد النجاحات البارزة التي حققتها ثورة 17 تشرين. وبعد عام على الثورة، عادت حكومة سعد الحريري لتحكم من جديد. وتأتي هذه العودة الدراماتيكية في أعقاب انفجار مروع وقع في مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس وأسفر عن مئات القتلى وآلاف الجرحى. وينبغي علينا الآن وأكثر من أي وقت مضى أن نفكر بشكل نقدي في ثورة 17 تشرين ونفهم كيف تطورت وما الأحداث التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم.

     

    وفي 17 تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2020، أطلق المركز اللبناني للدراسات السياسية LCPS أول سلسلة مقالات تطلب من علماء الاجتماع اللذين لعبوا أدواراً قيادية أو نشطة في الانتفاضة تقييم ثورة 17 تشرين ومسارها. لقد طرحنا على جميع المساهمين الأسئلة نفسها وقد تمحورت حول أهم إنجازات الحركة، وآثار جائحة كوفيد-19 ومن ثم انفجار الرابع من آب/ أغسطس على الاحتجاجات، فضلاً عن التحديات والفرص المتاحة أمامها. وترد إجاباتهم عن كل من الأسئلة في سلسلة من المقالات.

     

    وبعد محاكاة أهم إنجازات الثورة (http://lcps-lebanon.org/agendaArticle.php?id=197)، ننشر اليوم الجزء الثاني من هذه السلسلة، والذي يركز على رؤى المساهمين حول الأسباب التي جعلت ثورة 17 تشرين تشهد تراجعا في أعداد المشاركين فيها حتى قبل تفشي جائحة كوفيد-19. وقد جرى تنظيم هذا المشروع بالتعاون مع عالمة النفس الاجتماعي والزميلة في المركز اللبناني للدراسات السياسية LCPSالدكتورة ريم صعب والتي تقدم توليفةً في نهاية المقال.

     

    قائمة المشاركين (حسب الظهور)

    لينا قماطي، أخصائية في دراسات التنمية، وعضو فاعل في الكتلة الوطنية

    أوغاريت يونان، عالمة اجتماع، وخبيرة استراتيجيات ومدرّبة في مجال اللاعنف، ومؤسسة الجامعة الأكاديمية للاعنف وحقوق الإنسان

    كارمن جحا، ناشطة وأستاذة مشاركة في العلوم السياسية والإدارة العامة

    منى فواز، أستاذة في الدراسات الحضرية والتخطيط العمراني، عضو نشطة سابقة في بيروت مدينتي

    نزار حسن، باحث ومعلّق سياسي، يشارك في استضافة بودكاست السياسات اللبنانية Lebanese Politics Podcast وعضو في "لي حقّي".

    رانية المصري، عالمة بيئية وناشطة وممثلة منتخبة عن "مواطنون ومواطنات في دولة"

    سنا تنوري كرم، باحثة وناشطة في تاريخ الشرق الأوسط

     

    ترد السيرة الذاتية الكاملة الخاصة بكل مشارك ومشاركة في نهاية المقالة.

     

     

    لماذا شهدت ثورة 17 تشرين الأول / أكتوبر تراجعاً في أعداد المتظاهرين حتى قبل تفشّي جائحة كورونا؟

     

    لينا قماطي

    إن هذا السؤال يفترض أن معيار نجاح الثورة هو في عدد الأشخاص الذين يحتشدون في الشارع بشكل مستمرّ، وهو مفهوم أتحفظ عليه. فعلى عكس الحشود التي تقودها الأحزاب، لم ينزل مليون شخص إلى الشارع بأمرٍ من أحد في تشرين الأول/ أكتوبر، بل نزل معظم الناس من تلقاء أنفسهم. ولن يتمكن أحد من إعادتهم إلى الشارع ما لم يشعروا بضرورة العودة إليه بصورة جماعية.

     

    في جميع الحركات الاجتماعية، يعتبر النزول إلى الشارع أحد اشكال الاحتجاج المتعددة، وهو يتّخذ زخماً معيناً من شبه المستحيل أن يستمر لفترات طويلة من الزمن. في الواقع، يجب أن تتطور استراتيجيات الاحتجاج لتأخذ أشكالاً أخرى، مع الإبقاء على نوع من الضغط الثانوي في الشارع، الأمر الذي لم نتمكن من تحقيقه حتى الآن.

     

    ولكن في المقابل، لا يمكننا أن ننكر أنّ حجم الاحتجاجات قد تراجع في خلال الأشهر الستة إلى التسعة الماضية، وقد جاء ذلك بشكل أساسي نتيجة عاملين، الأزمة الاقتصادية والقمع الذي تمارسه الدولة. فالدولة - ومؤسساتها الموازية الأشبه بالميليشيات، مثل "حرس المجلس" – لم تستخدم القوة ضد المتظاهرين السلميين بعنف مفرط كما فعلت في الأشهر الستة الماضية، فضلاً عن انتهاكها الصارخ لحرية التعبير عبر شبكة الإنترنت وخارجها، ومن خلال ملاحقة الناشطين قضائياً. كما ويمارس النظام الطائفي نوعاً آخر من العنف يتمثّل في تسلّل أعضاء الأحزاب والاستخبارات بين المتظاهرين في الشارع، مما يؤثر مباشرة على درجة العنف التي تشهدها الاحتجاجات. وبالنسبة الى الأزمة الاقتصادية التي تُعتبر أحد أسباب تراجع الحضور في الشارع، لا يمكننا أن نلوم الناس الذين اختاروا الذهاب إلى أعمالهم بدلاً من النزول إلى الشارع وذلك خوفاً من أن يخسروا موارد رزقهم في الظروف الحالية، ولا سيما أن الاحتجاجات لا تبدو وسيلة فعالة تصلح لتحقيق الهدف.

     

    أنا على قناعة تامةً بأننا نحتاج إلى التفكير في طرق بديلة للتعبير عن مطالبنا.

     

    أوغاريت يونان

    غضب الناس وبناء القوة

    من الواضح أن أعداد المتظاهرين قد بدأت بالتراجع قبل تفشي جائحة كوفيد-19. ولكن الأرقام لا تتحدث دائما عن نفسها، ولا تحمل دلالات إيجابية أو سلبية في المطلق. فهي تتعلق فقط بنوع الإجراءات التي نلجأ إليها عند حشد المتظاهرين. أحياناً تستطيع قِلة قليلة أن تقوم بثورة، بينما قد تعطينا أعداد كبيرة من المتظاهرين بصيص أمل وهمي بقيام ثورة.

     

    منذ البداية، تمنّينا أن تتعزز الانتفاضة باستراتيجية تمهّد الطريق لقيام ثورة منظمة. وكما نقول في منهجيات النضال المدني، "الاستراتيجية هي تلك القناة التي تلعب دور صلة الوصل بين غضب الناس وبناء القوة" وذلك في سياق تغيير جذري. إن إحياء الغضب عند الناس المقهورين هو في صلب الثورة اللاعنفية، وهي دائما ما تكون ثورة على الذات وعلى الظلم وبوجه الظالمين. إذ إن من ينتفض يحتاج إلى القوة لا إلى العنف.

     

    إن ما جرى في 17 تشرين أطلق العنان للغضب، تارة بطرق سلميًة وتارة أخرى بطرق عنفية مع الأسف، لكنه مهد الطريق أمام قيام "ثورة" بأعداد واسعة، أي أنه بدأ بتشكيل هذه "القناة" التي تحدثنا عنها وبزخم قوي من أجل تحقيق ما يسمى بإنجاز القوة وإثباته والتأكيد عليه. وبما أن العملية المنهجية اللازمة لم تتحقق، في غياب استراتيجية منظمة، فقد سارت الأحداث بطرق متفرقة وفوضوية، كما أنها جاءت أحياناً عفوية وغير مدروسة. ومع مرور الوقت باتت الفرصة متاحة أمامنا للتحليل والتقييم والبحث عن رؤية سياسية أوسع نطاقا وأكثر شمولية، وهي تتناقض مع اللحظات الأولى من النشوة والبهجة للثورة العفوية. ونتيجة لذلك، كان من الطبيعي أن نرى تفرّق الأعداد الهائلة في أنواع مختلفة من المجموعات، وهي مجموعات باتت تحتاج إلى تحديد مواقفها كما ونقاط قوتها وضعفها. ونحن لن نتمكن من تقييم الأعداد إلا في تلك المرحلة.

     

    ومن بين أسباب تراجع الأعداد، أذكر ما يلي:

    إن الإطالة المفرطة في أشكال التعبير والاحتجاج تنهك أي حركة اجتماعية وتجعلها تصل بنفسها إلى شيء من الرتابة والتكرار ولا تسمح لها بتحقيق "إنجاز قوة" هادف ومحدّد. (إليكم بعض الأمثلة: تكرار نفس الأسلوب في المسيرات والاعتصام والتظاهر والنزول إلى الساحات وجلسات النقاش والمناسبات والسهرات الاحتفالية ومواقع التواصل الاجتماعي ونشاطات نهاية الأسبوع، وأيضًا تكرار وسائل وأشكال المواجهة (السلمية أو العنفية) وغياب استراتيجية تعزز وظيفة المواجهة وتحصّل نتائجها تدريجياً إلخ). ولعل من أسباب تراجع الأعداد أيضا غياب استراتيجية منظمة كما أشرنا سابقاً وكذلك غياب المثابرة والحاجة الملحة إلى تحقيق إنجاز ملموس وقويّ يحفّز على استمرار الاحتجاجات بوتيرة عالية وبطرق مختلفة. كما أن العنف يقضي على كل شيء، حتّى على غايتنا النبيلة وصورتنا الجميلة. أما عنف السلطة وقوى الأمن فقد أنهك المتظاهرين وشتّتهم وأرعبهم ودمّرهم، وكذلك فعل عنف بعض المتظاهرين. وبالطبع لا مجال للمقارنة بين عنف الظالم وعنف المظلوم. ولكن حتّى لو كان عنف "الثورة" ما هو إلا ردّة فعل، فإن العنف يبقى عنفًا، وهو ليس لصالحنا في أيّ حال من الأحوال. كما أن التدخلات ’المسيّسة‘ وذات الخلفية  من قبل لاعبين على الساحتين الداخلية  والخارجية  قد أقلقت فئات من المنتفضين وردعتهم عن التواجد في الساحات...

     

    لكل هذه الأسباب مجتمعة، بدأت الأعداد الهائلة للمتظاهرين العفويين تتراجع. فمنهم من راح يعيد النظر في الأحداث ومنهم من خفّت عزيمته أو ازداد إحباطه ومنهم من راح ينتقي ما يناسبه من أشكال المشاركة في الاحتجاجات في حين اكتفى البعض بما قدمه حتى الآن أو انكفأ موقتًا كما فعل آخرون تحضيراً لمرحلة أخرى بوسائل اخرى (تحضير فردي أو جماعي للانتخابات ولتولي السلطة، تحضير تنظيمات جديدة من نقابات وهيئات وأحزاب سياسية، تحضير تنسيقيات وتحالفات جديدة، إلخ). أما البعض الآخر فقد انصرف إلى تحركات ذات مطالب محددة.

     

    إنّ ما حصل في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، كان نتيجة نضالات تراكمية وبناء تدريجي لقوىً حيّة في المجتمع على مدى ثلاثة عقود، ومن البديهيٌّ أن يُستكمَل ولكن بأنماط مختلفة. ومع ذلك، فأنا لا أحسبها مرحلة تراجعية، إلا إذا كان المنتفضون على علم بأمور قد خفيت عني ويعتبرون أنهم ليسوا بأفضل حال، عندها بالطبع نكون أمام أزمة.

     

    ربما أنا أرى الأمور بوضوح وربما لا. ولكنني أعتقد اعتقادا راسخا بأنه من غير الممكن تنظيم ثورة بالاستمرار في تبني الأنماط نفسها من سلوك الاحتجاج (وبغضّ النظر عن جائحة كوفيد-19)، كما لا يمكن التراجع عن الزخم الذي تحقّق. ونحن الآن عالقون بين هذين الحدّين. ولكن لا ينبغي لنا أن ننسى بأن كل الإمكانيات ما زالت متاحة أمامنا.

     

    كارمن جحا

    لا يعجبني هذا السؤال بالرغم من أنه غالباً ما يتكرر. تستخدم الثورة الشارع كأداة واحدة ورئيسة للضغط، لكنها ليست الأداة الوحيدة. ففي سياق الإفلاس المالي وفقدان الوظائف والاكتئاب العام والقمع العنيف الذي تمارسه الدولة، تتراجع الأعداد في الشارع في كل مكان. ففي فترة مناهضة الفصل العنصري في إفريقيا الجنوبية، لم يبلغ الضغط على النظام ذروته بفضل الاحتجاجات في الشارع فحسب، بل لجأ الناس إلى التقاضي الاستراتيجي، فضلاً عن قيام مجموعات صغيرة منهم بوقفات احتجاجية على ضوء الشموع بهدف إحراج الحكومة ونكأ جراح التمييز العنصري ليراها العالم أجمع. لقد كان من المستحيل من بعد كانون الثاني/ يناير، وفي خضمّ العاصفة الشتوية وانخفاض قيمة الليرة، أن نستمر في السير بالاتجاه نفسه. بطبيعة الحال، لقد أثّر ذلك على أعداد الجماهير إلا أنه لم ينل من زخمها. فحتى بعد تشكيل حكومة دياب، أغلق المحتجون الشوارع أمام مقرّ مجلس النواب، وأطلقوا حملة إعلامية ضخمة بعنوان "عدم الثقة" أيدتها شبكات وجماعات مختلفة؛ وما هذا إلا دليل قاطع على أن ثورة الشارع قد تحولت إلى قوة معارضة كبيرة على الرغم من أننا لم نتمكن من الإمساك بزمام الأمور بعد.  

     

    منى فواز

    أنا لا أنظر إلى انتفاضة 17 تشرين على اعتبارها حدثاً منعزلاً، بل أعتبرها جزءًا من مجموعة تصاعدية من الاحتجاجات والمظاهرات التي شجبت النظام السياسي الطائفي الفاسد القائم في لبنان منذ عام 1990. إذ تبيّن وجود تقارب كبير بين التيارات المعارضة في حركة تشرين وقد تمخّضت عنه تلك اللحظات القوية التي شهدناها حينها. غير أن هذه التيارات تفتقد إلى تنظيم جيد، فهي لا تمتلك أرضية تسمح لها بالمحافظة على استمرارية الاحتجاجات. وبالتالي، لم تستطع الانتفاضة أن تتحول إلى لحظة ثورية قادرة على إقصاء القوى الحاكمة. وفي الواقع، فقد شعر العديد ممن شاركوا في الاحتجاجات أنهم قد يتّفقون على التشخيص (مثل فساد الطبقة السياسية) فيما يختلفون على رؤيتهم للتغيير (مثل اعتماد نموذج لتنمية الاقتصاد الوطني، والاستراتيجية الدفاعية الوطنية، واصطفافات لبنان الإقليمية والدولية، ومسؤولية لبنان الأخلاقية تجاه اللاجئين). وقد بذل العديد من المنظمين جهداً متعمّداً ومدروساً بهدف حماية الاحتجاجات لتبقى أفقية وبلا قيادة. وبالطبع، يفهم المرء هذا الزخم من الناحية الفكرية وإلى حد ما من الناحية التكتيكية، ولعلّه الحد الذي وصل إليه المنظمون من حيث الجهوزية، غير أن الإصرار المستمر على الحفاظ على موقف تكتيكي معارض على مدى أشهر قد يأتي بنتائج عكسية لأن الديناميكيات الجيوسياسية التي اكتسبت أهمية كبيرة في الأشهر الماضية عمدت الى تحويل أي حركة متماسكة بشأن القضايا الداخلية (مثل العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد) عن مسارها. هذا لا يعني أن القوى الجيوسياسية كانت غائبة، لكنها لم تكن متجليّة الى هذا الحدّ. وبينما يتفق اللبنانيون على تشخيصهم الداخلي للفساد المستشري، إلا أنهم منقسمون وبشدة حول القضايا الإقليمية وما يجب أن يكون عليه موقف لبنان تجاه الاعتبارات الجيوسياسية، بما في ذلك كيف يمكنه أو كيف ينبغي عليه أن يدافع عن حدوده. باختصار، يمكنني أن أذكّر سريعاً خمسة أسباب أدت إلى تراجع الزخم في الاحتجاجات وهي على الشكل التالي:

     

    1. فشلت الدعوات الاحتجاجية في أن تتوحد فيما بينها على ما هو أبعد من مجرد معارضة. وبينما يرغب الكثيرون في دعم حركة ناشئة إلا أنً قليلاً منهم مستعدون للوثوق بحركة تكتفي بالمعارضة من بعد انقضاء أشهر على بدء الاحتجاجات، لاسيما وأنّ البلاد تنزلق نحو الانهيار.

       

    2. اكتسب البعد الإقليمي والجيوسياسي للصراع وضوحًا وأهمية أكبر، الأمر الذي يقوضنا. فنحن كمواطنين نشعر أننا نملك القوة والتأثير على صعيد قيادتنا الداخلية، لكننا نشعر بأننا مقوضين أكثر إزاء الولايات المتحدة أو المملكة العربية السعودية أو فرنسا أو تركيا أو إيران. بالإضافة إلى أن المواطنين اللبنانيين منقسمون في قراءاتهم وولاءاتهم الإقليمية، ويزداد هذا الانقسام عمقاً مع العقوبات الأميركية، فيتحول الشعور بالوحدة إلى خطاب انقسامي مما يزيد المخاوف من الانزلاق إلى الحرب.

      لا ينبغي أن ننسى أن تشكيل هذه الخنادق المتعارضة جاء نتيجة عمل دؤوب استمر على مدى عقد من الزمن على الأقل. فمن جهة، استند ولاء المؤيدين لحزب الله إلى نظرة عالمية مشتركة حول الدور الحاسم الذي لعبه الحزب في حماية الحدود الوطنية، وبالتالي في حماية سبل عيشهم (لقد سبق وقمت بعمل تناولت فيه الثقافة الجماعية التي جرى إرساؤها لتعزيز الدعم للحزب وكذلك فعلت كل من منى حرب ولارا ديب). وحتى لو اعترف مناصرو الحزب بوجود فساد في صفوفه، سيستمر الكثيرون من بينهم في دعمه طالما أنهم لم يروا استراتيجية "دفاعية" مقنعة. (والجدير بالذكر أن شعور "الخوف" وما يحتاجه المرء للدفاع عن نفسه قد ازداد وتغير على مر السنين).

       

      ومن جهة أخرى، فلقد تلقت العديد من منظمات "المجتمع المدني" غير الحكومية تمويلًا من مصادر أميركية وأوروبية ووقعت تعهدات التزمت من خلالها عدم إشراك أفراد على صلة بحزب الله في أنشطتها. وعلى سبيل المثال، فقد وثقت هذه التوجهات، كل من كارولين ناجل ولين ستاهيلي اللتان كتبتا عن تنمية الخبرات التنظيمية والهويات الجماعية التي تستبعد مسبقًا إمكانية الحوار مع المجموعات التابعة لهذا الحزب. ومع تسبّب العقوبات الأميركية في تفاقم الانهيار الاقتصادي والمالي في لبنان، ليس من المستغرب أن تصبح كيفية التعامل مع حزب الله مصدر انقسام أساسي حتى بين أولئك الذين شاركوا في احتجاجات تشرين مما أدى في نهاية المطاف إلى ترسيخ الانقسامات في صفوف الشباب المنظم. وعلى الرغم من أن الكثيرين واعون لهذا الشرخ، إلا أنهم لم ينجحوا في ردمه. ونتيجة لهذه الانقسامات، ينظر العديد من اللبنانيين إلى "الثورة" على أنها "معسكر" داخل الانقسامات اللبنانية، وهو معسكر قد يطالب بالاستقلال عن الطبقة السياسية، لكنه في الواقع يميل إلى التسامح مع بعض أطراف هذه الطبقة السياسية دون سواها. أنا لا أقول إنني أؤيد هذه الاتهامات الموجهة الى الثورة. أنا فقط أسلّط الضوء على هذا الانقسام المهم كونه ساهم في إبعاد العديد من المتظاهرين عن صفوف المعارضة الظاهرة أو منعهم من الانضمام إلى المجموعات المشاركة في الاحتجاجات.

       

    3. استخدمت الطبقة السياسية استراتيجياتها النموذجية في الحشد، وفي نهاية المطاف، وجد العديد من أولئك الذين أعادوا النظر لفترة (وجيزة) في ولاءاتهم الطائفية أن الحماية الطائفية تبقى الورقة الأقوى التي يمكنهم التعويل عليها، بغض النظر عن مدى هشاشتها. وقد يعترفون بفساد قادتهم في السر، ولكنهم سيستمرون في ولائهم لهم طالما لم تتوفّر لهم بدائل عن سبل العيش. ففي نهاية المطاف، هذا الولاء هو في الوقت عينه ولاء أيديولوجي (مثل الحاجة إلى الحماية) ولكنه أيضًا اقتصادي (مثل الوظائف والإعانات).

       

    4. حالياً، يبحث العديد من أفراد الطبقة الوسطى من الذين أعرفهم والذين شاركوا في الاحتجاجات عن بدائل ليعيلوا عائلاتهم. لم يعد بإمكانهم المشاركة في الاحتجاجات وهم بدأوا يفقدون أشغالهم وموارد رزقهم. ومنذ وقوع الانفجار، يفكر كثيرون في مغادرة البلاد بشكل نهائي ولا سيما أولئك الذين يستطيعون إلى ذلك سبيلاً. لقد أدركوا أن النظام متجذّر وأنّ المأساة معقّدة أكثر مما كانوا يعتقدون في بادئ الأمر وهم اليوم يبحثون عن بدائل في الخارج.

       

    5. أدى العنف الذي قوبلت به الاحتجاجات إلى ثني الكثير من الناس عن المشاركة فيها. وأعتقد أن العنف الذي استخدم من قبل الدولة في احتجاجات كانون الأول/ ديسمبر 2019 ومن ثمّ في الصيف المنصرم، ولا سيما في 8 آب/ أغسطس، كان مفرطاً ومتعمداً.

     

    ومع ذلك كله، فإن الأمل لا يموت. وقد نشهد أشكالًا جديدة من التنظيم والاحتجاجات في الأشهر القادمة، وقد تتخذ شكل مجموعات ضغط وحملات انتخابية، كما يمكن أن نشهد فورات غضب عديدة وإلخ.

     

    نزار حسن

    من الطبيعي أن يتراجع عدد المتظاهرين بعد انتفاضة من نوع حركة 17 تشرين، بغض النظر عن أي جائحة أو أزمة مماثلة. فقد اندلعت الانتفاضة بشكل مفاجئ ولم تكن مبنية على أسس صلبة للتحركات الشعبية، لاسيما مع قلة أو شبه انعدام وجود شبكات سياسية شعبية مستعدة لتحويل العمل الثوري إلى تنظيم مستدام. ومما لا شك فيه أن الشبكات الشعبية العفوية نشأت في كل منطقة تقريبًا وضمنت استمرار الاحتجاجات لفترة، لكن غالبية الذين شاركوا في الأيام القليلة الأولى من المظاهرات الحاشدة لم ينتظموا بجدية تحت مجموعات أو أحزاب، وقد توقفوا عن الاحتجاج في وقت من الأوقات.

     

    يجب أن نتذكر أيضًا أن الناس باتوا منهكين، وما كان بوسعهم الاستمرار في تأجيل العودة إلى حياتهم العادية. وأنه لمن غير المنطقي أن نتوقع قيام احتجاجات يومية أو أسبوعية ضخمة، وأعتقد أنه من الطبيعي أن تتخذ الديناميكيات الاحتجاجية شكل دورات محددة ولا سيما في ظل القلق المتصاعد بشأن الوضع الاقتصادي الذي عانى منه ما لا يقل عن 99٪ من سكان البلاد بعد أسبوع أو أسبوعين على بدء الانتفاضة. إن هذا القلق المالي يؤدي إلى نوع من "خصخصة" التظلم ويجعل الناس يركّزون أكثر فأكثر على الحفاظ على أسرهم ومحيطهم المباشر فيما تخفّ قدرتهم على التفكير في حلول جماعية.

     

    ما زالت معركتك ضد الفساد والظلم الاجتماعي قائمة، ولكن مهمتك الآن تقتضي في أن تلعب دور رجل الأعمال الذكي الذي يعرف كيف يحمي مدخراته من التلاشي بسبب انخفاض قيمة الليرة، أو في أن تحافظ على متجرك الصغير أو تحرص على عدم خسارة وظيفتك وتحاول إيجاد سبل لدفع مستحقاتك. وفي مثل هذه الظروف، من غير المستغرب أن يخفت اهتمام الكثيرين بالأحداث التصعيدية في الشارع فيما هم يسعون إلى تأمين الشعور بالاستقرار والأمان ويحاولون الحصول على أي امتياز ولو نسبي.

     

    ويلتقي هذا الواقع مع الأجندة المعادية للثورة الخاصة بالأوليغارشية اللبنانية التي فعلت كل ما في وسعها لتهزم الانتفاضة وتحيي الانقسامات الطائفية والسياسية التي تضمن استمراريتها. وشكّلت الدعاية الذكية ضد الانتفاضة جزءاً من الثورة المضادة إذ أنها استهدفت التكتيكات التي اعتمدتها ثورة تشرين من إغلاق للطرق، وإطلاق للشتائم والألفاظ النابية خلال الاحتجاجات، وما إلى ذلك. وربما يكون الخطاب المناهض للثورة قد انطلق في صفوف مجموعات صغيرة من الثوار، ولكنه ما لبث أن انتشر على نطاق واسع ما أثر سلباً على الحماس العام للانتفاضة.

     

    وقد تراجع هذا الحماس أيضًا نتيجة غياب رؤية واضحة لما يمكن أن تحققه المشاركة الجماهيرية في الاحتجاجات. ومع غياب الهدف المشترك، من المستغرب أن تستمر الحركة ككتلة واحدة موحّدة. وبالتالي، من الطبيعي أن تتسلّل المواقف والأولويات إلى المجموعات والنشطاء، وأن تسعى كل مجموعة الى تقديم رؤيتها واستراتيجياتها. وقد بدأت هذه المشكلة بالظهور مع استقالة حكومة الحريري وهي ما تزال قائمة حتى اليوم. فكثرت التساؤلات، ما هو المطلب؟ هل هو واقعي؟ هل يغيّر في جوهر الأمور؟ كيف يمكننا الانتقال إلى نظام علماني عادل وشفاف؟ لا أحد يستطيع أن يدّعي أن لديه إجابة مثالية عن تلك الأسئلة، والارتباك ليس المنطلق الأفضل الذي يمكن البناء عليه لحشد الاحتجاجات.

     

    رانية المصري

    إن الإشارة إلى الاحتجاجات التي اندلعت في 17 تشرين باعتبارها ثورة يشكل سوء فهم قد يؤدي إلى المبالغة في تقدير قدرة هذه الاحتجاجات على إحداث التغيير. فأولئك الذين شاركوا في احتجاجات أو انتفاضة 17 تشرين، لم يمثلوا وجهة نظر سياسية واحدة، ولم يكن لديهم فهمٌ موحد للوضع السياسي. فقد أعلنت الاحتجاجات عن رفض صارخ للواقع من غير أن تقدّم بديلاً. لقد احتجّ الناس وعبروا عن غضبهم الناجم عن الوضع الاقتصادي وعن تراجع ثقتهم السياسية بجزء من السلطة السياسية إن لم يكن بالسلطة كلها.  

     

    وبعد شهر واحد على اندلاع الاحتجاجات في وجه الوضع المتدهور باستمرار، حلّت الشكوك والمخاوف والإجهاد محل الغضب. وفي الوقت عينه، كانت الاحتجاجات تفتقر إلى اتجاه واضح.  فيما طوّقت الشرطة "الأماكن العامة" في مناطق مختلفة في وسط بيروت، مما خفّف من وهج ما كان يشبه "الكرنفال" وزاد من الإحساس بقبضة الشرطة، سعت السلطة السياسية الطائفية إما إلى الاستيلاء على الشارع أو إلى اتهام المتظاهرين بأنّهم يمتثلون لعملاء في الخارج. كما أن النظام شجّع الناس على التكيّف مع وضع يستحيل التعايش معه وذلك من خلال مطالبتهم بالمزيد من الوقت والصبر. فأتتنا حكومة حسان دياب التي أثبتت عدم قدرتها على اتخاذ أي قرار جدير بالذكر، وأظهرت أنها مجرد واجهة للزعماء السياسيين الطائفيين.وقد نجحت هذه الحكومة فعلاً في تهدئة غضب المتظاهرين إلى حدّ ما. أضف إلى ذلك كله، تأثير البرد والمطر في شهر شباط/ فبراير والذي خفّف من رغبة الناس في الاحتجاج.

     

    من ناحية أخرى، حاولت مجموعات قديمة وجديدة الاستمرار بالمظاهرات. لكن الصعوبة هنا كانت تكمن في تقديم بديل سياسي واضح وذي مصداقية، وفي جعل المتظاهرين أنفسهم وأولئك الذين عادوا ليتابعوا الاحتجاجات من منازلهم، يقتنعون بهذا الطرح. لو أدرك الناس مدى جسامة الإفلاس الاقتصادي وانعكاساته على النظام السياسي الطائفي، ولو استشعروا وجود بديل سياسي حقيقي، لما غادروا الشارع بالرغم من المطر والبرد ومحاولات استمالتهم واسترضائهم.

     

    في غضون ذلك، لا بدّ من الاعتراف بأن الاحتجاجات نشأت كرد فعل على الأزمة الاقتصادية وكرد فعل على تراجع الثقة في السلطة السياسية. وما زالت هذه الأسباب قائمة.

     

    سناتنوري كرم

    أولاً، علينا أن نفهم أن الحركات الاجتماعية لا تنشأ من فراغ، بل تأتي نتيجة تراكمات على امتداد الزمان وحتى المكان. ثانيًا، لا بدّ لنا من مواجهة حقيقة مفادها أنه يستحيل أن نجد تعريفاً للحظة كمثل لحظة 17 تشرين، إلا مع مرور الوقت، الأمر الذي يطرح إشكالية، إذ أننا لا نستنتج حتمية حدوث الثورات إلا مع مرور الزمن. وعليه، لا يمكننا أن نعرّف حركة 17 تشرين، أهي حركة اجتماعية أم ثورة أم انتفاضة؟ وبما أن الوقت ما زال مبكراً لكي نطلق عليها تعريفاً أو اسماً، سيكون من الصعب علينا أن نفهم حركة مدّها وجذرها.

     

    وفيما يجب أن نتجنب الوقوع في فخ استثنائية لبنان بأي شكل من الأشكال، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار بعض خصوصيات الوضع في البلاد ولا سيما عند التفكير في أي تحرك يهدف إلى التغيير. ففي المقام الأول، علينا أن نفهم أسس الدولة اللبنانية، ليس فقط الطائفية منها التي دائماً ما يؤتى على ذكرها، بل أيضًا الاجتماعية والاقتصادية الرأسمالية منها والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالطائفية بطبيعة الحال. وإن أي تحرّك ضد الحكم السائد في لبنان يفترض التعاطي مع هذه الأسس مجتمعة. لقد كانت مشكلة الحركات السابقة في لبنان تكمن إما في عجزها عن تصوّر الدولة اللبنانية خارج التركيبة الطائفية، أو في الانقسامات داخل اليسار بشأن وسائل النضال الثوري ضد النظام اللبناني، ونتائجه النهائية. وكان العائق الآخر في وجه حركة التغيير يمكن في قوة اليمين وصلابة النظام، وفي مدى الدعم الأجنبي الذي حصل عليه اليمين في الماضي لسحق اليسار وإلحاق الهزيمة به. لم تكن كل تلك العواقب المتفرقة الواحدة دون الأخرى بل كانت كلها مجتمعةً ما تسبب في عرقلة الحركات الاجتماعية والسياسية ضد النظام الحاكم في لبنان.

     

    كما ينبغي علينا أن نتذكر بأن تجربة 17 تشرين هي تجربة فريدة من نوعها، فطريقة المطالبة بالتغيير المتبعة لم تمر عبر القنوات البرلمانية الإصلاحية، بل عبر الإضرابات الجماهيرية والتظاهرات في الشارع. وهذا النوع من النشاط بطبيعته، يقوى تارةً ويضعف تارة أخرى. ولكن تذكّرنا روزا لوكسمبورغ في كتابها الصادر عام 1906 “The Mass Strike”، أن "أثمن شيء وأكثر ما يدوم في سرعة تقلّب الموجات يكمن في رواسبها الذهنية". وهذه الرواسب الذهنية هي الأساس الذي يمكن أن نبني عليه حركة منظمة.

     

     لقد طلبنا من الدكتورة تنوري كرم الإجابة عن سؤال مغاير للسؤال الأصلي. فسألناها عن كيفية ظهور أو اختفاء الحركات الاجتماعية المعارضة للأنظمة من منظور تاريخي، مع التركيز على الواقع في لبنان.

     

    التوليفة

    أحاول في هذا التحليل اختزال الأسباب المختلفة الكامنة وراء تراجع حركة احتجاجات 17 تشرين والتي ذكرها المشاركون في هذه المقالة، لأشرح أسباب ذلك التراجع حتى قبل تفشي جائحة كوفيد-19. أما الهدف من ذلك فهو الوصول الى صورة واضحة لمختلف الأسباب المطروحة، من غير السعي بالضرورة لطرح السردية المشتركة بين هذه المساهمات. وعليه، فإنني سأناقش الأسباب حتى ولو سبق للمشاركين أن أتوا على ذكرها.

     

    بشكل عام، يعزو المشاركون عملية تراجع الاحتجاجات الشعبية إلى عوامل من خارج حركة 17 تشرين ومن داخلها. أبدأ بالأسباب الخارجية لتراجع الاحتجاجات والتي، باستثناء الطقس البارد، تندرج جميعها على ما يبدو تحت عامل تفكيكي أكبر وهو الثورة المضادة.

     

    الأسباب الخارجية لتراجع الاحتجاجات

     

    القمع المباشر من جانب الدولة التي تمارس العنف ضد المتظاهرين من خلال الأجهزة الأمنية التي تعتقل المتظاهرين كما وتسكت الناشطين عبر ملاحقتهم قضائياً.

     

    شيطنة المتظاهرين وتشويه سمعتهم عبر اتهامهم بأنهم عملاء يخدمون المصالح الأجنبية وإدانة أساليب الاحتجاج مثل قطع الطرقات واستخدام الألفاظ النابية.

     

    استراتيجية فرّق تسد، حيث استخدم الزعماء السياسيون التكتيك القديم نفسه المتمثل في تصعيد الانقسامات الطائفية والسياسية وإثارة المخاوف من نشوب حرب جديدة، فيما صوّروا أنفسهم على أنهم مصدر الحماية الأول والأخير للطائفة من أي اعتداء من جانب "الآخر" وان لا غنى عنهم. ولا بدّ من أن نذكر كيف يغذّي الصراع الإقليمي والدولي من جهة، وديناميكيات القوة من جهة أخرى، استراتيجية فرِّق تسد. ويشير أحد المشاركين هنا إلى كيفية انعكاس التطورات الحاصلة في الصراع (الصراعات) الإقليمي المستمر على المشهد السياسي اللبناني الداخلي، حيث تختلف ولاءات الأحزاب الحاكمة وتحالفاتها الإقليمية والدولية. وأمام التوترات الإقليمية المتزايدة، يبرز تساؤل حول الموقف الذي ينبغي على لبنان أن يتخذه حيال السياسات الإقليمية، الأمر الذي يشكّل قضية خلافية في صفوف اللبنانيين. وتلعب الجهات الأجنبية أيضًا دورًا نشطًا وهامًا في تراجع الاحتجاجات. وتعطي إحدى المشاركات هنا مثالاً على السياسات التي تؤدي إلى تفاقم الانقسامات، وهو فرض العقوبات الأميركية، بينما تشير مشاركة أُخرى إلى الدعم الخارجي للطبقة السياسية اللبنانية بشكل عام إذ تعتبر أن هذا الدعم يشكل واحداَ من أبرز التحديات التي لطالما قوّضت الحركات الاجتماعية والسياسية ضد النظام. لذا، قد يكون لديناميكيات القوى الإقليمية والدولية تأثير ضار على: (أ) الهوية الجماعية للحركة ككتلة شعبية موحدة تقف ضد النظام بأكمله، و(ب) النظرة للطبقة السياسية الحاكمة على أنها مجموعة واحدة تستغل الشعب، وهو تصوّر محوري في السردية الثورية القائمة على شعار "كلّن يعني كلّن"، و(ج) حس الفعالية الجماعية لدى الناس إذ يساورهم شعور بأن لا حول لهم ولا قوّة في وجه الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية.

     

    الاستيلاء الذي اتخذ شكلين رئيسيين:

    - الاستيلاء على الشارع من جانب الأحزاب السياسية الحاكمة من خلال انضمام أنصارهم إلى الشوارع لتصفية الحسابات بين مختلف المعسكرات السياسية الحاكمة. وقد اشتمل ذلك على انضمام متسللين إلى الاحتجاجات، مما زاد من استخدام العنف. وقد ساهم سطو السياسيين على الشارع بهذا الشكل في خلق شكوك حول هوية الحركة ومصداقيتها كحركة تسعى أن تواجه النخبة الحاكمة بكاملها، مما جعلها تُصوّر في مراحل مختلفة كحركة ذات مصالح سياسية فئوية تحركها أحزاب من 8 أو 14 آذار، على الرغم من أن تصنيفها على أنها معادية لحزب الله كان أكثر شيوعًا. وتسبّب ذلك في الحدّ من الثقة في التحركات وقدرتها على استقطاب مشاركين.

     

    - الاستيلاء على الخطاب والأجندة الثورية من جانب الأحزاب السياسية الحاكمة. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هو قرار المجيء بحكومة "تكنوقراطية" الى السلطة في كانون الثاني/ يناير 2020 برئاسة حسان دياب لا سيما أن أحد مطالب الثورة كان تشكيل حكومة مؤلفة من خبراء مستقلين سياسيًا. وكان أحد أهداف حكومة دياب إيهام الناس بالتغيير السياسي واسترضاء بعض الشرائح، التي طُلب منها منح فرصة للحكومة الجديدة. وبالطبع كان ذلك مجرّد وهم زائف لاسيما وأن حكومة دياب لم تكن مستقلة سياسيًا عن الأحزاب الحاكمة ولم تكن تكنوقراطية. وقد أدرك الناس ذلك، فنزلوا الى الشوارع بأعداد كبيرة للحؤول عبثاً دون منح مجلس النواب الثقة لحكومة دياب.

     

    - الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت الى أن أسفرت عنثلاثة عواقب على الاحتجاجات. أولاً، وجد المواطنون أنفسهم مضطرّين لتخصيص المزيد من الوقت والطاقة لإيجاد طرق لإعالة أنفسهم وأسرهم ماليًا (مثل زيادة العمل). ثانيًا، كان بعض أنواع الاحتجاجات مكلفاً مادياً (مثل قطع الطرق والإضرابات) مما زاد من صعوبة استمرارها في ظل الأزمة. ثالثًا، شعر بعض المواطنين بأنهم مجبرون على (إعادة) اللجوء إلى المحسوبية الطائفية لتأمين سبل عيشهم في غياب البدائل. في نهاية المطاف، يمكن اعتبار الأزمة الاقتصادية وجهاً من أوجه الثورة المضادة لأن إفقار الناس لم يتم صدفةً بل هو نتيجة الفساد والنظام الاقتصادي الذي وضعه النظام الأوليغارشي بدعمٍ من جهات أجنبية، مما أدى إلى إضعاف المواطنين عبر تجريدهم من الموارد الحيوية التي تسمح بإطلاق لمعارضة جماعية والمحافظة عليها.

     

    - الطقس الشتوي البارد والممطر، ولو أنه ليس من الأساليب المضادة للثورة التي استُخدمت للحدّ من التعبئة (نأمل أن لا يكون)، إلا أنه شكل عائقاَ عملياً مهماُ إذ أصبح من الصعب على الناس الاستمرار في اللجوء إلى أبرز تكتيكاتهم الاحتجاجية التي تضمنت الاحتشاد في الشوارع والساحات.

     

    أنتقل الآن إلى أسباب تراجع التظاهرات المرتبطة بالحركة الاحتجاجية نفسها، علماً أنها كلها مرتبطة ببعضها البعض برأيي وتندرج تحت عامل واحد أكبر وهو التنظيم السياسي.

     

    الأسباب الداخلية لتراجع التعبئة

     

    - غياب التنظيم السياسي، حيث ذكر عدّة مشاركين أن الانتفاضة كانت عفوية وكانت تفتقد إلى التنظيم السياسي. ويشير أحد المشاركين إلى أن الحركات الشعبية السياسية التي كانت موجودة في بداية الانتفاضة كانت محدودة جداً، وبالنسبة للمتظاهرين فإن الاحتجاجات لم تؤدي إلى انضمام أعداد كبيرة من الناس إلى الجماعات أو الأحزاب السياسية القائمة أو المشكّلة حديثًا، مما أثر سلبًا على إمكانية وجود احتجاجات مستدامة.

     

    - غياب الرؤية السياسية المشتركة، حيث لاحظ العديد من المشاركين أن المتظاهرين والجماعات الاحتجاجية متحدون في رفضهم للواقع الاقتصادي والسياسي ومتّفقون على الحاجة إلى تغيير النظام السياسي، لكن لم يكن لديهم بديل سياسي مشترك ومتطور. وبحسب أحد المشاركين، فقد شملت بعض خطوط الانقسام الرئيسية اختلافات حول الاستراتيجيات الوطنية المتعلقة بالاقتصاد، والاستراتيجية الدفاعية، والسياسة الخارجية (التحالفات الإقليمية والعالمية) واللاجئين.

     

    - عدم وجود قيادة للحركة والإطالة في هذا التوجه، وهو سيف ذو حدين، إذ إن تكتيك المعارضة هذا يكون مفيداً في البداية، لكن ليس على المدى البعيد ولاسيما إذا كانت الحركة ترغب وتخطط لتولي السلطة.

     

    - غياب استراتيجية للاحتجاجات، تجلى في الاعتماد المفرط على تكتيكات الاحتجاجات المرهِقة وغير المستدامة والتي غدت روتينية (مثل الاحتجاجات في الشوارع وقطع الطرق باستمرار) ففقدت بالتالي الزخم الذي كانت تتمتع به. وقد أضافت إحدى المشاركات إلى ذلك استخدام العنف من جانب بعض المتظاهرين، محذرةً من أن العنف، ولو أنه أمر يمكن تفهمه إلا أنه يقلّل من احتمالية انضمام المتظاهرين إلى الحركة وبالتالي ينعكس سلباً عليها.

     

    ولو أخذنا مجموع هذه الأسباب الكامنة وراء تراجع الاحتجاجات حتى قبل تفشي الجائحة، للخّصناها بسببين رئيسيين: القوى المضادة للثورة والافتقار إلى التنظيم السياسي. وبناءً على ذلك، تعتمد عملية تطوير حركة 17 تشرين على المجيء باستراتيجيات فعالة للتصدّي للعوامل المضادة للثورة مثل القمع المباشر من جانب الدولة، واستراتيجيات فرّق تسُد، والاستيلاء وتأثيرات الأزمة الاقتصادية على إمكانية الحشد. وكما أكد عدّة مشاركين، فإن ذلك يتطلّب تنظيماً سياسياً أكبر، ورؤية سياسية أكثر وضوحًا وتفصيلاً وإعادة التفكير في استراتيجية الاحتجاجات. بطبيعة الحال، لا يمكن فصل العناصر الخارجية والداخلية التي أدّت الى تراجع الحركة الاحتجاجية عن بعضها البعض. فعلى سبيل المثال، القمع يزيد من صعوبة التنظيم. ولكن الأهم من ذلك هو أنه قادر على تحفيز الاحتجاجات وإثارة ردود فعل عنيفة. وكذلك، يمكن تسارع التدهور الاقتصادي أن يؤجج الاحتجاجات، فيشكّل العدد المتزايد من المواطنين العاطلين عن العمل في نهاية المطاف مصدراً هاماً للتنظيم والحشد.

     

    في الختام، لا بدّ من الإشارة إلى أن العديد من المشاركين يرفضون الاعتماد على أعداد المتظاهرين في الشارع للفصل في نجاح حركة 17 تشرين الأول أو فشلها مشيرين إلى أسباب ثلاثة رئيسية. أولاً، إن المد والجذر الذي تشهده الاحتجاجات في الشوارع أمر عاديّ وطبيعي. ثانيًا، إن الأعداد الموجودة في الشارع ليست بحدّ ذاتها معيار نجاح الحركة الثورية، لأن التغيير الجذري قد تبدأه أحيانًا مجموعات صغيرة في الشارع، كما أن الاحتجاجات في الشارع هي في نهاية المطاف تكتيك احتجاجي من بين تكتيكات كثيرة أخرى. لقد اتخذت حركة الاحتجاجات بالفعل أشكالًا أخرى مختلفة خلال الأشهر القليلة الماضية، مثل المعارك القانونية، وتنظيم النقابات العمالية، وتشكيل الأحزاب السياسية والائتلافات السياسية. ثالثًا، يجب أن ننظر إلى احتجاجات 17 تشرين الأول على أنها جزء من تاريخ المقاومة والمعارضة المدنية ضد النظام السياسي الطائفي الفاسدة القائمة منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990. وعليه، طالما أن النظام الذي كان الحافز وراء هذه الحركة ما زال قائماً، قد تشهد الحركة مداً وجزراً، لكن لا يسعها سوى أن تستمر في نهاية المطاف.

     

    السيرة الذاتية للمشاركين

    ريم صعب

    أستاذة مساعدة في علم النفس الاجتماعي في الجامعة الأميركية في بيروت وزميلة في المركز اللبناني للدراسات. تدور خبرتها البحثية حول العلاقات بين المجموعات من جهة، والمواقف السياسية من جهة أخرى، مع التركيز بشكل خاص على العوامل النفسية الاجتماعية التي تدفع بالناس للانخراط في العمل السياسي الجماعي. كانت من بين المتظاهرين على مدار الثورة، وهي عضو نشط في رابطة أساتذة الجامعات المستقلين، ومؤسّسة مشارِكة لمبادرة "بدنا نثور بدنا نعرف" لمناقشة مواضيع تهمّ الرأي العام.

     

    لينا قماطي

    عضو ناشط في حزب الكتلة الوطنية. كانت مسؤولة خلال الأشهر الستة الأولى لثورة تشرين الأول عن إطلاق وتنفيذ منصة تفاعلية للمواطنين ضمن الحزب. حاصلة على درجة الدكتوراه من المعهد العالي للدراسات الدولية والتنموية في جنيف، ومؤلفة كتاب "المرحلة الانتقالية ما بعد الصراع في لبنان: مفقودو الحرب الأهلية" والصادر عن منشورات "روتليدج" في عام 2019. تحاضر على المستوى الجامعي وتعمل بانتظام مع المنظمات المحلية والدولية على الصعيد الاستشاري. وهي عضو مؤسس في Act for the Disappeared (لنعمل من اجل المفقودين).

     

    أوغاريت يونان

    من روّاد التربية اللاعنفية في لبنان والمنطقة العربية، ومؤسِسة جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان www.aunohr.edu.lb. متخصّصة في علم الاجتماع وفي العلوم التربوية–السياسية (الجامعة اللبنانية، السوربون – باريس). خبيرة مُبتكِرة لنهج خاص في التدريب، ومؤلِّفة للعديد من الطرائق الحديثة وبعضها تُرجـِم إلى أكثر من لغة. كاتبة وباحثة ومناضلة لاعنفية واكبت أولى هيئات حقوق الإنسان وحركات اللاعنف في لبنان والعالم العربي، وأول شبكة عالمية للروّاد المدرّبين على حقوق الإنسان وحلّ النزاعات والمواطنة والسلام. تُعرَف بأنها وجهٌ مؤثّر في أجيال من الشباب وناشطي المجتمع المدني وفي الطاقات العليا.

     

    كارمن جحا

    أستاذة مساعدة في الإدارة العامة والقيادة والتطوير التنظيمي في الجامعة الأميركية في بيروت. تتركز خبرتها البحثية في المؤسسات السياسية وتقاسم السلطة وتمثيل المرأة والمجتمع المدني والحركات الاحتجاجية. وهي أيضًا مؤسسة مساعدة وباحثة مشاركة في مركز إدارة الأعمال والقيادة الشاملة للمرأة ((CIBL، وهو منصة إقليمية متعددة التخصصات لتعزيز سياسات أصحاب العمل الشمولية في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. شغلت منصب المديرة المؤسسة لبرنامج المنح الدراسية التعليم من أجل القيادة في الأزمات للنساء الأفغانيات في الجامعة الأميركية في بيروت. وهي ناشطة تعمل من أجل المساواة بين الجنسين وحماية اللاجئين وحرية التعبير. خلال الثورة، كانت بين المتظاهرين وشاركت في التعبئة والتحليل ووضع الاستراتيجيات مع العديد من الحركات والجماعات السياسية.

     

    منى فواز

    أستاذة في الدراسات الحضرية والتخطيط المدني وباحثة رئيسية في مختبر بيروت العمراني في الجامعة الأميركية في بيروت وزميلة أقدم في المركز اللبناني للدراسات. وبين تشرين الأول وكانون الأول 2019، شاركت يوميًا في الانتفاضة من خلال تقديم واستضافة مناقشات حول القضايا العامة، حيث كانت تتعلّم من خلال الاصغاء والتبادل مع العديد من الأشخاص، وتنظيم الاحتجاجات والمشاركة فيها، وتصميم المحتويات الإعلامية وإرسالها، ومحاولة تنسيق الحركات وجمعها للتوفيق في المواقف والمساعدة في بناء تحالف، وذلك بصفتها كانت عضوًا في بيروت مدينتي (استقالت منذ ذلك الحين) وكباحثة تبحث في التقاطعات الوثيقة بين العقارات والتمويل وآثارها السلبية على حياة الناس.

     

    نزار حسن

    نزار حسن باحث لبناني ومنظّم سياسي ومعلّق. يشارك في استضافة بودكاست السياسة اللبنانيةThe Lebanese Politics Podcast، وقد نشر مقالات حول لبنان في العديد من المنافذ الإخبارية العربية. وهو عضو في المنظمة السياسية الشعبية التقدمية "لِـ حَقّي"، حيث عمل في لجنة الشؤون العامة. يقود نزار بحثًا اجتماعيًا واقتصاديًا مع شبكة المنظمات غير الحكومية العربية للتنمية، وقد عمل سابقًا كباحث في السياسات في المركز اللبناني للدراسات. حاصل على بكالوريوس في الدراسات السياسية ودبلوم في الاتصال الإعلامي من الجامعة الأميركية في بيروت، ودرجة الماجستير في العمل والحركات الاجتماعية والتنمية من SOAS في لندن، حيث كتب أطروحته عن الحركة الاحتجاجية في لبنان عام 2015.

     

    رانية المصري

    رانية ناشطة سياسية وتنظّم أنشطة سياسية منذ فترة طويلة. وبعد عقود من التنظيم الشعبي، انضمت إلى الحزب السياسي "مواطنون ومواطنات في دولة" للعمل على تغيير الوضع الراهن في لبنان من خلال العمل السياسي المباشر، ولبناء علاقات مباشرة بين الدولة ومواطنيها تحكمها الحقوق والمسؤوليات وليس مجرّد علاقات زبائنية تحكمها الانتماءات الطائفية. انتُخبت رانية في كانون الأول/ديسمبر 2017 رئيسة للمجلس التفويضي داخل الحزب، وكانت مرشحة للانتخابات النيابية في لبنان عام 2018. بالإضافة إلى نشاطها السياسي، كانت أستاذة علوم البيئة في جامعة البلمند، وإخصائية في سياسات البيئة والطاقة في المكتب الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومديرة مشاركة ومؤسِّسة في معهد المجتمع المدني والمواطنة في الجامعة الأميركية في بيروت. وهي تُدرِّس حاليًا في الجامعة اللبنانية الأميركية.

     

    سنا تنوري كرم

    سنا تنوري كرم كاتبة ومؤرخة عن الشرق الأوسط الحديث، تعمل على تأليف كتاب عن التاريخ الثقافي والفكري لليسار اللبناني خلال فترة الانتداب. وهي حاليًا زميلة في EUME في Forum Transregionale Studien في برلين. وردت أعمالها في مجموعة من المنشورات بينها "مجلة تاريخ العالم" و "جدلية" و "ميغافون" و "ترافو بلوغ". كانت سنا تنوري كرم من بين أساتذة الجامعات والمهنيين الناشطين خلال وبعد ثورة تشرين الأول في لبنان.

     

Sign up for our Newsletter
Thank you for subscribing to our newsletter!