-
شؤون اجتماعيةيوليو 30، 2025
اللاجئون السوريون والعائدون اللبنانيون: بين الانسجام والتنازع
- كارلوس نفّاع، رشا عاقل
إن الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر المؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة الرسمية أو الموقف الرسمي لمؤسسة 'كونراد أديناور' أو لمكتبها في لبنان.
في أعقاب الحرب الأخيرة التي اندلعت بين حزب الله وإسرائيل في تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، تضرّرت بعض المناطق في لبنان كثيرًا، ونَزَحَ مئات الآلاف من الأشخاص. وفي منطقة الغبيري، الواقعة في الضاحية الجنوبية لبيروت، عادَ الكثير من اللبنانيين إلى منازلهم المُهدَّمة، ليواجهوا ظروفًا صعبة، بوجود اللاجئين السوريين الذين يعيشون هناك منذ سنوات، ولا سيّما منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011. وتعيش هاتان الفئتان اليوم في منافسةٍ اجتماعية واقتصادية على الموارد وفُرَص العمل والخدمات.
يستند هذا المقال إلى دراسة مفصّلة، ويتناول التوتّرات القائمة بين المجموعتَيْن، كذلك يبحث في كيفية إرساء سياسات أكثر شمولًا، من شأنها أن تدعم الفئتَيْن. وقد أُجرِيَ البحث استنادًا إلى 15 مقابلة شبه مُنظَّمة مع مجموعة متنوّعة من الجهات المعنيّة، من بينها لاجئون سوريون، ولبنانيون عايشوا النزوح الداخلي، وأصحاب مؤسّسات، وقيادات محلّية وناشطون، بالإضافة إلى ممثّلين عن منظّمات غير حكومية.
من بين النتائج الرئيسية التي توصّلت إليها هذه الدراسة، برزت أربعة مصادر توتُّر أساسية تُؤثِّر في الحياة اليومية في الغبيري، هي: التنافس على السكن، وفُرَص العمل، والمساعدات، ومواجهة تحدّيات مرتبطة بالتماسك الاجتماعي. يعكس كلّ جانب من هذه الجوانب أوجه عدم المساواة البنيوية العميقة والهشاشة التي خلّفتها الحروب، والتي يعاني منها كلٌّ من اللاجئين السوريين والعائدين اللبنانيين. ويُعَدّ السكن أوّل هذه التحدّيات وأبرزها.
التنافس على السكن
إنَّ ارتفاع كلفة الإيجارات أحد أبرز مصادر التوتّر المباشرة والملموسة في الغبيري. فقد أدّى توافُد اللاجئين السوريين إلى زيادة كبيرة في الطلب على المساكن المُؤجَّرة، ما أسهمَ في رفع الأسعار. بالتالي، يجد الكثير من العائدين اللبنانيين، الذين عادوا إلى منازل متضرّرة أو غير صالحة للسكن، صعوبةً في تأمين سكن بسعر معقول. وأثارَ هذا الوضع استياءً تجاه أصحاب العقارات الذين يُفضِّلون المستأجرين القادرين على الدفع بالدولار الأميركي والمستعدّين للسكن في أماكن مزدحمة أو لا ترقى إلى المستوى المطلوب. ومن المُرجَّح أن تتصاعد حدّة التوتّرات بشأن الإيجارات أكثر فأكثر في حال عدم إقرار أنظمة سكن أكثر صرامة وعدم توافر الدعم المطلوب.
التنافس على فُرَص العمل
يُشكِّل التنافس على الوظائف مصدر توتّر آخر بين المجتمعَيْن. فاللاجئون السوريون يعملون بمعظمهم في الاقتصاد غير النظامي، ولا سيّما في قطاعَي البناء والخدمات. وغالبًا ما يُفضِّل أصحاب العمل تشغيلهم لأنَّهم يقبلون بأجور متدنّية وساعات عمل أطول من دون الحصول على أيّ تقديمات أو ضمانات اجتماعية، وهذا واقعٌ يُغذّي مشاعر الاستياء لدى العائدين اللبنانيين. والجدير بالذكر أنَّ هذه الظاهرة ليست جديدة؛ فقبل اندلاع الحرب في سوريا، كانَ هناك عددٌ كبيرٌ من السوريين الذين يعملون في لبنان موسميًا في قطاعَي الزراعة والبناء ("مركز وصول لحقوق الانسان" ACHR، 2020؛ تركماني وحمادة، 2020).
يسعى العائدون اللبنانيون عمومًا لإيجاد فُرَص عمل في كلٍّ من القطاعَيْن، النظامي وغير النظامي، إلا أنَّهم غالبًا ما يُواجِهون صعوبةً في إعادة الاندماج بعد النزوح، ويعتمدون كثيرًا على شبكاتهم الشخصية، أو الانتماءات السياسية، أو العلاقات السابقة. وعلى الرغم من أنَّ معظم أصحاب المؤسّسات الذين أُجريت معهم المقابلات أقرّوا بالدور الأساسي الذي يؤدّيه العمّال السوريون في سدّ فجوات سوق العمل -ولا سيّما في الوظائف اليدوية التي لا يعمل فيها الكثير من اللبنانيين- فقد أعربوا أيضًا عن قلقهم من الممارسات الاستغلالية وتراجُع معايير الأجور. ومع تقلُّص فُرَص العمل، تتفاقم مشاعر الإحباط، وخصوصًا في صفوف العائدين. وفي غياب أيّ تدابير حماية رسمية للطرفَيْن، يُخشى أن تؤدّي الضغوط المرتبطة بسوق العمل إلى تأجيج مشاعر الاستياء وظواهر الاستغلال.
التفاوت في تقديم المساعدات
يُعَدّ التفاوت في الوصول إلى المساعدات والدعم الإنساني من المظاهر المتزايدة الدالّة على عدم المساواة والاستياء في منطقة الغبيري. وقد أعربَ العائدون اللبنانيون الذين شملهم هذا البحث عن استيائهم من حصول اللاجئين السوريين على حصّة الأسد من مساعدات المنظّمات الدولية. وكما قالَ أحد العائدين الذين أُجرِيَت معهم مقابلات: "العلاقات ليست جيّدة؛ نُريدهم أن يعودوا إلى سوريا. الجميع يدعمهم، ونحن متروكون وحدنا من دون أيّ دعم لإعادة تأهيل شقّتنا". في المقابل، شدَّدَ ناشطون من المجتمع المدني المحلّي، ممّن يعملون على مشاريع دعم اللاجئين، على الحاجة المُلِحَّة إلى اعتماد مقاربة إنسانية شاملة تخدم المجتمعَيْن على حدّ سواء. ففي ظلّ غياب الاستهداف الدقيق والتنسيق الفعّال، قد يؤدّي التفاوت في تقديم المساعدات إلى تعزيز الانقسامات.
التماسك الاجتماعي
على الرغم من التوتّرات المرتبطة بالسكن والعمل والمساعدات، برزت أيضًا محطّاتٌ من التعاون والتضامن بين المجتمعَيْن. فقد أنشأت بعض المجموعات السورية واللبنانية أنظمة دعم غير رسمية، يتبادل فيها الجيران المساعدة في رعاية الأطفال، أو إيجاد فُرَص عمل، أو الإقراض المالي. كذلك، أسهمت البرامج المجتمعية وتدخّلات المنظّمات غير الحكومية في تعزيز الحوار بين اللاجئين السوريين والعائدين اللبنانيين وتنظيم أنشطة مشتركة تُشجِّع على التماسك الاجتماعي بين الطرفَيْن. وقد أشارَ أحد الناشطين في المجتمع المدني خلال المقابلات، قائلًا: "نستخدم التدريب المهني المشترك وورش الدعم النفسي-الاجتماعي لتعزيز الفهم المتبادل والتعاطف بين الطرفَيْن".
ولكنَّ الانتماءات السياسية تُؤثِّر في المواقف العامّة تجاه اللاجئين السوريين، إذ تتشكّل آراء الناس حيالهم إلى حدّ كبير بفعل الخطاب السياسي للأحزاب اللبنانية ووسائل الإعلام. كذلك، أسهمت الاختلافات في السلوكيات والعادات الاجتماعية في تأجيج التوتّرات في بعض الأحيان، حيث أشارَ العائدون اللبنانيون إلى تغيُّراتٍ طرأت على نمط الحياة في الأحياء، ومستوى الضجيج، والتحوُّل ثقافي. من هنا، فإنَّ تعزيز الحوار المحلّي وتصميم برامج شاملة سيكونان أمرَيْن أساسيَّيْن للمساعدة في معالجة هذه الثغرات قبل أن تترسّخ وتتحوّل إلى انقسامات طويلة الأمد.
توصيات سياساتية
تؤدّي البلديات المحلّية دورًا محوريًا في معالجة التحدّيات المرتبطة بالسكن والعمل التي يُواجِهها السكّان. وينبغي للبلديات الاحتفاظ بسجلّات محلّية مُحدَّثة تشمل أماكن سكن اللاجئين وأوضاعهم المهنية. والواقع أنَّ معالجة تحدّيات عدم الاستقرار السكني المزمن، المتمثّلة بالاكتظاظ وظروف السكن غير الملائمة، ستتطلّب تدخّلات معيّنة، مثل الدعم في الإيجارات، وتطوير البنية التحتية في التجمّعات السكنية غير النظامية، وتأمين الحماية القانونية لحقوق السكن من أجل الحدّ من مخاطر الإخلاء القسري.
يجب أن تُركِّز السياسات على المبادرات المحلّية التي تُشجِّع الحوار المجتمعي، وبرامج الاندماج الاجتماعي، والمشاريع الاقتصادية التشارُكية، بهدف تخفيف التوتّرات الاجتماعية الناتجة من التنافس على الموارد. ويمكن أن تكون البلديات بمثابة مدخل لحلول شاملة ومُرتَكِزَة على الواقع المحلّي، شرط أن تحصل على ما تحتاجه من دعمٍ وإمكانات.
وفي هذا الإطار، ينبغي للمنظّمات الإنسانية والمنظّمات غير الحكومية التي تُقدِّم خدماتها إلى كلٍّ من اللاجئين السوريين والفئات اللبنانية الهشّة أن تتبنّى مقاربةً قائمةً على الاحتياجات. فثمّة حاجة إلى اعتماد برامج شاملة (مثل التدريب المهني والدعم النفسي-الاجتماعي)، إضافةً إلى تقديم الدعم التربوي إلى الأطفال من المجتمعَيْن. ويُعَدّ التنسيق بين الجهات الإنسانية أمرًا أساسيًا لبناء الثقة وتفادي تكرار الجهود، كذلك إنَّ اعتماد معايير الاستجابة والعدالة في توزيع المساعدات يُشكِّل شرطًا أساسيًا لتعزيز التعايش المشترك.
ولكنْ، من دون اعتماد إصلاحات بنيوية، سيبقى تأثير التدخّلات المحلّية محدودًا على المدى الطويل. فيمكن صانعي السياسات على المستوى الوطني أن يؤدّوا دورًا محوريًا في معالجة الثغرات القانونية والبنيوية التي تُغذّي مشاعر الاستياء والتنافس والتوتّر. وتشمل معالجة هذه الثغرات تنظيم سوق العمل غير النظامي، بما يضمن حماية الطرفَيْن، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي التي تَصِل إلى فئات اللبنانيين الأكثر هشاشةً، وتشجيع التخطيط العمراني الشامل لتفادي أيّ توتّرات مستقبلية.
أخيرًا، من شأن الجهات الدولية المانحة أن تلعبَ دورًا فاعلًا في دعم البرامج التي تُعزِّز التماسك الاجتماعي والمرونة الاقتصادية لدى المجتمعَيْن من خلال تمويل برامج العمل والتعليم التي تخدم الطرفَيْن، وتشجيع الاستثمار في تشغيل النساء وتأمين فُرَص للشباب، ودعم بناء قدرات البلديات.
وإلى جانب تحسين الخدمات المحلّية وتعزيز التعايش، يجب أن تأخذ السياسات في الاعتبار ضرورة تمكين العودة الآمنة والطوعية والكريمة للّاجئين على المدى البعيد متى توفّرت الظروف المناسبة. ويشمل ذلك التعاون مع الوكالات الدولية لتقييم ظروف العودة، وتقديم الدعم القانوني واللوجستي للراغبين في العودة، وضمان أن تكون العودة غير قسرية. ويجب أن يترافق دعم المجتمعات المُضيفة مع جهود تهدف إلى معالجة الأسباب الجذرية للنزوح والدفاع عن حقوق المتضرّرين.
لمعرفة المزيد حول الموضوع، انقر هنا للاطلاع على التقرير ذي الصلة.
المراجع
"مركز وصول لحقوق الإنسان". 2020. ماهية حقّ العمل للّاجئين السوريين والفلسطينيين في لبنان. https://www.achrights.org/2020/03/06/10559/
تركماني، ن.، حمادة، ك. 2020. ديناميات اللاجئين السوريين في القطاع الزراعي في لبنان (Dynamics of Syrian Refugees in Lebanon’s Agricultural Sector). معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدولية.
كارلوس نفّاعأستاذ جامعي ومستشار متخصص في إدارة أزمات اللّجوء والسّياسات العامة. حائز منحة زمالة فورد العالمية – 2020، وجائزة وزارة الخارجية الألمانية – الوحدة الألمانية بعيون عربية - 2015. ترأس اللّجنة الإقليمية لإنتاج قاموس المصطلحات العربية لتقنيات المراقبة والتّقييم ضمن مشروع في مؤسسة أديان، ولجنة التّصنيف العربي المعياري للمهن في برنامج التّعاون الدّولي الألماني لإصلاح السّياسات وبرنامج تطوير التّبادل الأكاديمي اللبناني الألماني مع هيئة التّبادل الأكاديمي الألمانية. بالإضافة إلى شهادة الدكتوراه اللبنانية في السّياسات التّربويّة، حائز شهادة الماجستير في إدارة التّعليم الدّولي من جامعة لودفيغسبورغ-ألمانيا، وشهادة الماجستير في العلوم السّياسية والإدارية من الجامعة اللّبنانية.
رشا عاقلرشا عاقل باحثة في المركز اللبناني للدراسات. تحمل إجازة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا من الجامعة الأمريكية في بيروت بدرجة امتياز عالٍ مع مرتبة الشرف، وشهادة ماجستير في دراسات الهجرة من الجامعة اللبنانية الأمريكية. خلال دراستها العليا في الجامعة، عملت باحثة مساعدة في معهد دراسات الهجرة، حيث درست تأثير تغير المناخ في الهجرة. في المركز اللبناني للدراسات، نشرت العديد من البحوث حول الطاقة المتجددة وقضايا بيئية أخرى.