• شؤون اجتماعية
    أكتوبر 15، 2025

    لبنان عند مفترق طرق: الهجرة وطريق التعافي

    • كريستل بركات
    لبنان عند مفترق طرق: الهجرة وطريق التعافي

    ليست الهجرة ظاهرة جديدة في تاريخ لبنان، إذ تعودُ جذورُها إلى قرونٍ مضت، إلّا أنَّ المآزق الاقتصادية والسياسية المُتلاحِقة منذ عام 2019 أدّت إلى تفاقُمها بشكلٍ ملحوظ. وبعد مرور ستّ سنوات على بداية الانهيار الاقتصادي، والانفجار الكارثي في مرفأ بيروت، وجائحة كوفيد-19، والانقسامات السياسية الداخلية، وتصاعُد التوتّرات على الحدود الجنوبية، لا يزال لبنان يرزحُ تحت وطأة أزماته المستمرّة.

     

    اليوم، لم يعد بالإمكان التغاضي عن فشل الدولة. فإذا لم يتمّ تنفيذ إصلاحات فورية وفعّالة، يُواجِه لبنان خطر الانحدار الشديد، ممّا يُهدِّد بضياعِ جيلٍ كامل. ويتجلّى هذا الفشل وانعدام الثقة بالدولة اللبنانية والعَقد الاجتماعي في تصاعُد موجات الهجرة نحو الخارج. ولا شكَّ في أنَّ ضخامة الحرب الأخيرة وحدّتها، إلى جانب المحنة المزمنة التي يمرّ بها لبنان، تُنذِر بترسيخ هذا الاتّجاه من الهجرة، ممّا يُعمِّق مسار الانحدار الديمغرافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

     

    إذا أرادَ لبنان أن يخرج من دوّامة النكبات المتعاقبة ويضع حدًّا لتفاقُم ظاهرة الهجرة، فلا يمكنه الاستمرار في تجاهل مسؤولياته في تنفيذ الإصلاحات العاجلة والضرورية لفتح الطريق أمام المساعدات والدعم الدولي، واستعادة ثقة شعبه. ومع انتخابِ رئيسٍ للجمهورية، وتعيينِ رئيسٍ للحكومة، وتشكيل حكومة بعد أكثر من عامَيْن من الشلل والجمود السياسي، يكون لبنان قد اتّخَذَ أوّل خطوة حاسمة نحو الأمام.

     

    ولكي يتمكّن لبنان من النهوض مجدّدًا على أُسُس متينة، يتعيّن على قيادته وحكومته الجديدتَيْن اعتماد برنامج عمل يولي الأولوية للمساءلة، والتعافي المستدام، وإعادة الإعمار بناءً على احتياجات المواطنين. وبينما تستعدّ الحكومة اللبنانية الجديدة لإطلاق عمليات إعادة الإعمار بعد الحرب الأخيرة، وإصلاح اقتصادها المتضرّر من الأزمة، وتحسين مستوى المعيشة المتدهور، يجب أن تسترشد بسؤالٍ جوهري واحد: كيف يمكن للدولة اللبنانية إعادة بناء العقد الاجتماعي؟

     

    دولة متعثّرة تحتاج إلى إصلاحات عاجلة

    سلّطت أزمة عام 2019 الضوء على الحاجة المُلِحَّة لإجراء إصلاحات عاجلة على الصُّعُد السياسية والاقتصادية والمالية والمؤسّسية، فضلًا عن الإصلاحات في مجال البنية التحتية. ومع ذلك، لا تزال غالبية هذه الإصلاحات مجرّد تطلّعات، ولم تتحقّق على أرض الواقع حتّى اليوم. كذلك، زادَ تصاعُد التوتّرات على حدود لبنان من هشاشة الوضع في البلد، حيث تستمرّ هذه التوتّرات في زعزعة الاستقرار، وتأخير تنفيذ الإصلاحات، ودفع اللبنانيين إلى التفكير في الهجرة.

     

    وفقًا لاستطلاع الرأي الذي أجراه المركز اللبناني للدراسات عام 2022، والمقابلات اللاحقة مع مقدّمي معلومات رئيسيين في عامَيْ 2023 و2024، يربط اللبنانيون الراغبون في الهجرة أسبابَ قرارهم أساسًا بدوافع سياسية واقتصادية. وفي ظلّ الظروف الراهنة، أصبحت المخاوف الأمنية أيضًا عاملًا رئيسيًا يدفع الكثيرين إلى الشروع في الهجرة.

     

    على الصعيد السياسي، من المهمّ استعادة ثقة المواطنين في قيادة بلدهم. ويمكن تحقيق ذلك عبر تعزيز سيادة القانون، بما في ذلك استقلالية القضاء، وتفعيل القوانين والآليات القائمة المعنيّة بالشفافية ومكافحة الفساد. ويشمل ذلك أيضًا إجراء إصلاحات انتخابية، وتعزيز تطبيق اللامركزية من خلال تمكين البلديات.

     

    على الصعيدَيْن الاقتصادي والمالي، هناك حاجة مُلِحَّة إلى إعادة هيكلة القطاع المالي لمعالجة الانهيار المالي وحماية المودعين. وتُساهِم الإصلاحات المالية والنقدية في الحدّ من تدهور قيمة الليرة اللبنانية وتحسين إدارة المالية العامّة، ما يسمح بإعادة توجيه التمويل الكافي نحو تقديم الخدمات العامّة الأساسية.

     

    ومن شأن هذه الإصلاحات أن تُساهِم أيضًا في استقرار معدّلات التضخّم، وإعادة بناء الثقة بالمصرف المركزي والمؤسّسات المالية الرسمية، وتعزيز النموّ الاقتصادي. وتُعَدّ هذه الإصلاحات في غاية الأهمية، إذ إنَّ المساعدات الدولية تُمثِّل حلًّا مؤقّتًا، في حين تضمن الإصلاحات الاقتصادية والحوكمة الرشيدة تحقيقَ الاستقرار على المدى الطويل.

     

    على صعيد البنية التحتية والمؤسّسات، تستمرّ الدعوات لإصلاح قطاعات الطاقة، والنقل العام، والتعليم، والرعاية الصحّية، وإدارة المياه، والنفايات. وتُركِّزُ هذه الدعوات أيضًا على حقوق الإنسان، وتعزيز حماية النساء والأطفال، واتّخاذ تدابير لمكافحة الفساد.

     

    قرار المغادرة مقابل قرار العودة

    قرار مغادرة لبنان هو قرارٌ شخصي وعائلي بالدرجة الأولى، لكنَّه يكشف عجز الدولة حين يتحوّل إلى ظاهرة متكرّرة. وسواء كانَ الدافع وراء هذه الهجرة الانهيار الاقتصادي، أو الوضع السياسي، أو الاعتبارات الأمنية، فإنَّها تعكس انهيارًا عميقًا للعقد الاجتماعي اللبناني.

     

    في دراسةٍ أجراها المركز اللبناني للدراسات على مدى عام، استنادًا إلى آراء قادة المجتمع المدني والأكاديميين والخبراء المحلّيين، يُسلَّطُ الضوء على هذا الاتّجاه الخطير وعلى العلاقة المعقّدة بين تفاقُم الأزمة الاجتماعية والسياسية في لبنان وارتفاع معدّلات الهجرة. وقدّمت الدراسة وجهات نظر الخبراء حول التأثير البالغ للهجرة غير النظامية، لا سيّما على الأطفال والأُسَر الهشّة.

     

    اليوم، أصبحت الهجرة، سواء النظامية أو غير النظامية، استراتيجيةً للاستمرار، وردًّا مباشرًا على الوضع الأمني المتدهور، والأزمة الاقتصادية الخانقة، وفشل مؤسّسات الدولة في تأمين الحدّ الأدنى من الأمن الإنساني للمواطنين. ووفقًا لأوجين سينسينغ، وهو مدير المركز اللبناني لأبحاث الهجرة في جامعة نوتردام: "لطالما كانت عوامل الدفع أقوى من عوامل الجذب، ما يجعل إحداث تغييرات جذرية في النظام أمرًا لا مفرّ منه". بمعنى آخر، كانت الأسباب التي تدفع اللبنانيين إلى الهجرة دائمًا أقوى من الأسباب التي تحثّهم على البقاء في وطنهم.

     

    مع تدهور مستوى المعيشة في لبنان وتزايُد ندرة المستلزمات الأساسية وصعوبة الوصول إليها، تظلّ الهجرة المخرج الأخير للعديد من المواطنين اليائسين. وفي الفترة الممتدّة بين عامَيْ 2019 و2022، شهدت أعداد المهاجرين غير النظاميين من لبنان ارتفاعًا ملحوظًا.

     

    وفقًا لجنيفر سكولتي- عويس، وهي خبيرة وباحثة أولى في معهد دراسات الهجرة في الجامعة اللبنانية الأمريكية: "شهدَ عام 2024 زيادةً كبيرة في أعداد اللبنانيين الذين لجأوا إلى الهجرة غير النظامية، ما يُضاف إلى أعداد غير اللبنانيين الذين يستخدمون لبنان كمنفذ عبور نحو أوروبا ومناطق أخرى.  وتجدر الإشارة إلى أنَّ ظاهرة الهجرة غير النظامية آخذة في التصاعُد منذ عام 2019 على الأقلّ، نتيجةً للأزمات الأمنية والاقتصادية المتلاحقة والحرب المستمرّة في سوريا. وقد أدّت التغيُّرات في المواقف تجاه المهاجرين في أوروبا إلى دفع الفئات الأكثر هشاشةً للبحث عن طرق غير نظامية للهجرة".

     

    تُؤثِّر أزمة الهجرة غير النظامية بالدرجة الأولى على فئات الأشخاص الأكثر هشاشةً، لا سيّما النساء والأطفال، الذين يُواجِهون مخاطر كبيرة خلال رحلاتهم. فمن جهة، تُواجِه النساء والأطفال الذين يلجأون إلى الهجرة غير النظامية مخاطر جسيمة تشمل الاستغلال والإساءة والاتجار بالبشر، كما يتعرّض الأطفال أيضًا لخطر عمالة الأطفال في الدول المُضيفة. ومن جهة أخرى، تؤدّي الهجرة، سواء كانت نظامية أو غير نظامية، إلى تعطيل تعليم الأطفال، إمّا بشكل مؤقّت وإمّا بشكل دائم. ويُعزى ذلك إلى ضرورة إعطاء الأولوية للعمل والبقاء على قيد الحياة على حساب التعليم، إضافةً إلى صعوبة الوصول إلى المدارس أو ارتفاع تكاليفها في الدول المُضيفة.

     

    على صعيد الصحّة النفسية، قد تؤدّي حالة عدم الاستقرار الناتجة عن الهجرة إلى آثار طويلة المدى على صحّة الأطفال النفسية. فقد يُعاني الأطفال من صدمات نفسية سواء بسبب رحلة الهجرة نفسها أو نتيجة صعوبة التكيُّف مع الحياة في البلدان المُضيفة. كذلك، فإنَّ الأطفال الذين يبقون في لبنان قد يتعرّضون لصدمات نفسية مرتبطة بتفكُّك أُسَرهم وفقدان التواصل مع أحد والدَيْهم.

     

    بالإضافة إلى ذلك، ساهمَ غياب الحوكمة الرشيدة في انتشار الفوضى والعنف والانتهاكات، ممّا أدّى إلى تفاقُم ظاهرة الهجرة غير النظامية. وتجد الأُسَر، التي تُعاني أصلًا من الفقر والهشاشة، نفسها مضطرّة إلى بيع أملاكها وتكبُّد ديون باهظة لدفع ثمن خدمات المهرّبين في سبيل الحصول على فرصة حياة أفضل في الخارج. وللأسف، فإنَّ النتيجة ليست مضمونة على الإطلاق، وفي حال تمّ احتجاز المهاجرين في بلد المقصد وإعادتهم إلى بلدهم، سيزدادُ وضعُ أُسَرهم سوءًا.

     

    في مناطق مثل طرابلس وعكّار والبقاع، حيث يشتدّ اليأس الاقتصادي، أصبحت الهجرة غير النظامية تجسيدًا للإخفاقات البنيوية في لبنان. فمن دون إصلاحات جذرية، سيواجه المهاجرون قرارات صعبة بشأن إمكانية عودتهم إلى بلدهم. ومع تزايُد اعتماد الأُسَر الأكثر هشاشةً على التحويلات المالية بوصفها شريان حياة لها، فإنَّ قرار المغادرة والعودة يرتبط أيضًا بقدرة البلد على توفير الظروف التي تُمكِّن المواطنين العاديين من إعالة أنفسهم وعائلاتهم. ومع ذلك، فإنَّ الهجرة إلى خارج البلد، رغم كونها قرارًا شخصيًا وعائليًا، ليست آلية مستدامة للتكيُّف مع الأوضاع في بلدٍ أنهكته الحروب والأزمات.

     

    اللبنانيون بحاجة إلى دولة جديرة بالثقة

    تُشكِّل الهجرة الجَمَاعية التي يُعاني منها لبنان - سواء عبر القنوات الشرعية أو الطرق غير الرسمية - أوضح دليل على فشل الدولة في أداء واجباتها الأساسية تجاه مواطنيها، كما أنَّها تُظهِر بطريقة غير مباشرة عدم التزام الدولة بإجراء الإصلاحات اللازمة وإعادة بناء ثقة المواطنين بها.

     

    بعبارة أخرى، يرتبط مستقبل لبنان بإصلاحات جوهرية تهدف إلى كسر دورة الفشل والإهمال والفساد المستمرّة في الدولة. من شأن هذه الإصلاحات أن تُمهِّد الطريق نحو شفافيةٍ أكبر، ومساءلة فعّالة، فضلًا عن دعم جهود التعافي وإعادة الإعمار. وفي نهاية المطاف، ستُسهِم هذه الإصلاحات في تعزيز النموّ الاقتصادي، والحدّ من موجات الهجرة، والسعي نحو عكس اتّجاهها.

     

    بشكل عام، السبيل الوحيد أمام لبنان لاستعادة ثقة شعبه يكمُن في بناء دولة قائمة على الإصلاح، وقادرة على استعادة مصداقية مؤسّساتها العامّة، وحريصة على تفعيل مبدأ المساءلة أمام مواطنيها.

     

    المراجع

    الباروميتر العربي. رؤى عن الهجرة في لبنان: صحيفة وقائع من استطلاع الرأي العام 2024 (Lebanon Migration Insights: 2024 Public Opinion Factsheet). آب/ أغسطس 2024. https://www.arabbarometer.org/2024/08/lebanon-migration-insights-2024- public-opinion-factsheet/



    كريستل بركات. المستقبل المشتّت: الجيل الضائع في لبنان في ظلّ الأزمة والهجرة (The Fragmented Future: Lebanon’s Lost Generation Amid Crisis and Migration). المركز اللبناني للدراسات، 5 آب/ أغسطس، 2025. https://www.lcps-lebanon.org/en/articles/details/4960/the-fragmented-future-lebanon%E2%80%99s-lost-generation-amid-crisis-and-migration

     

    ياسمين ليليان دياب وابراهيم جوهري. الصراع، والأزمات، والهجرة: الهجرة البحرية غير النظامية من لبنان منذ عام 2019 (Conflict, Crisis, and Migration: Maritime Irregular Migration from Lebanon Since 2019). مؤسّسة فريدريش ناومان للحرّية، 2023. https://www.freiheit.org/publikation/conflict-crisis-and-migration

     

    يارا حدّاد، ديانا مطر، نهى أباردازو، مالك بن عبد الله، وبشير شقير. "موجة بعد موجة: هجرة الأدمغة اللبنانية". (Wave after Wave: The Lebanese Brain Drain) بيانات الجامعة الأمريكية في بيروت، 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2022. https://sites.aub.edu.lb/datavisualization/2022/11/29/wave-after-wave-the-lebanese-brain-drain/

     

    برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي (UNDP) في لبنان. بناء القدرة على الصمود في ظلّ الأزمة المستمرّة: تحويل التحدّيات إلى فُرَص للشباب اللبناني (Building Resilience in a Protected Crisis: Transforming Challenges into Opportunities for the Youth of Lebanon). أيلول/سبتمبر 2023. https://www.undp.org/lebanon/publications/building-resilience-protracted-crisis-transforming-challenges-opportunities-youth-lebanon

     

    منظّمة الأمم المتّحدة للطفولة (اليونيسف) - منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. طفولة مدمّرة: آثار الحرب الكارثية على الأطفال في لبنان (Shattered Childhoods: The Catastrophic Toll of War on Children in Lebanon) . فبراير/شباط 2025. https://www.unicef.org/mena/reports/shattered-childhoods

     

    كريستل بركات

    باحثة في المركز اللبناني للدراسات. تخرّجت مؤخرًّا من برنامج فولبرايت للطلبة الأجانب في لبنان من جامعة نورث كارولينا في غرينسبورو، وهي حائزة على درجة ماجستير في دراسات السلام والنزاعات مع تركيز على تنمية السلام الدولي من جامعة نورث كارولينا في غرينسبورو. كما أنهت دراستها الجامعية في العلوم السياسية والشؤون الدولية بتقدير عالٍ من الجامعة اللبنانية الأميركية. تشمل مجالات اهتمامها تحليل النزاعات وحلها، نزع السلاح، العولمة، دراسات الهجرة واللاجئين، ودراسات المرأة والجندر.

اشتركوا في نشرتنا الإخبارية
شكرًا للإشتراك في نشرتنا الإخبارية