• سياسة
    نوفمبر 12، 2025

    النساء في الاحزاب اللبنانية: بين الشعار والممارسة

    • عبير شبارو
    النساء في الاحزاب اللبنانية: بين الشعار والممارسة
    المصدر: رمزي حيدر عبر أ ف ب

    مع اقتراب الاستحقاق النيابي المقبل، تعود مسألة تمثيل المرأة في الحياة السياسية اللبنانية إلى الواجهة من جديد، ليس بوصفها مطلبًا حقوقيًا فقط، بل كضرورة وطنية لإنقاذ السياسة اللبنانية من أزمتها البنيوية المتشابكة التي تطال الشرعية السياسية والتمثيل الشعبي وتوازن القوى داخل الأحزاب.

     

    لقد أثبتت التجارب العالمية أنّ تمكين النساء سياسيًّا لا يندرج فقط في خانة العدالة الجندرية، بل في صميم استقرار الدول وتطوّرها. وفي لبنان تحديدًا، حيث تتقاطع الطائفية بالزبائنية والذكورية السياسية، تتحوّل مشاركة المرأة إلى مؤشّر على مدى قدرة النظام نفسه على التجدّد. غير أنّ الواقع الحالي يُظهر أنّ هذا التجدد ما زال متعثرًا، وأنّ حضور المرأة في السياسة اللبنانية ما زال رهينة "حسن النية" الحزبية، لا ثمرة إصلاحات مؤسسية حقيقية تضمن مشاركة عادلة ومنهجية كإقرار الكوتا النسائية في القانون الانتخابي.

     

    من التاريخ إلى الحاضر: خطوات متعثّرة ومسار بطيء

    منذ أن نالت المرأة اللبنانية حقّ التصويت والترشّح عام 1952، بقي الطريق نحو التمثيل الفعلي شاقًّا وطويلًا. وقد فتحت تزكية ميرنا البستاني عام 1963 الباب أمام التوريث السياسي، إذ تلتها سبع نائبات وصلن إلى البرلمان عبر مقاعد ورثنها عن أزواجهنّ أو آبائهنّ أو أقاربهنّ. وهكذا، لم يتحوّل دخول المرأة إلى المجلس إلى مسار تمكيني مستقل، بل إلى امتداد للعائلات السياسية الذكورية بوجوه نسائية جديدة أكثر منه تعبيرًا عن المشاركة المستقلة.

     

    وبعد مرور أكثر من سبعين عامًا على الاعتراف بالحقوق السياسية للنساء، لم يتجاوز تمثيلهن النيابي 6.25٪، والوزاري 20.8٪، فيما يبلغ تمثيلهن البلدي 11٪ فقط. وهي نسب تعبّر عن حضور رمزي أكثر منه مؤثّر، إذ لا تزال المشاركة السياسية محكومة بعوامل بنيوية كالقانون الانتخابي، وترشيح النساء على مقاعد غير آمنة، وغياب الدعم المالي والإعلامي المتكافئ، والتوريث العائلي.

     

    وبالرغم من إقرار بعض القوانين الداعمة للمرأة، لما تتحقق المساواة على أرض الواقع. فلبنان يعيش حالة من الازدواجية بين ما هو de jure  منصوص عليه في النصوص، وما هو de facto  مطبّق في الممارسة. يجب ألّا يقتصر الإصلاح المطلوب على سنّ القوانين مع ضرورة ذلك، بل يجب أن يمتد إلى إصلاح بيئة تطبيقها ضمن منظومة حكم تقوم على الشفافية، والمساءلة، وتكافؤ الفرص.

     

    الأحزاب السياسية: بين الخطاب التقدّمي والممارسة التقليدية

    تشكل النساء 51٪ من مجموع الناخبين المسجّلين في لبنان وفقًا لبيانات وزارة الداخلية اللبنانية للعام 2025، غير أنّ حضورهنّ في الحياة السياسية والقرار الحزبي لا يزال محدودًا. فبحسب دراسة حديثة صادرة  عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة (تشرين الأول 2025)، لا تتعدى نسبة النساء في الأحزاب اللبنانية 35٪ في المتوسط، وتتراوح بين 15٪ في الحزب التقدمي الاشتراكي و58٪ في تيار المستقبل، في ما تبلغ نسبة الشابات المنتسبات 43٪. وهذه النسبة الأخيرة تعكس تحوّلًا إيجابيًا في التوجّهات الشبابية، إذ تبنّت بعض الأحزاب خطابًا أكثر حساسية لمبادئ المساواة استجابةً لمناخ انتفاضة تشرين ومحاولةً لجذب فئات جديدة من الناخبين.

     

    غير أنّ هذه المشاركة في القاعدة لا تنعكس على المستويات القيادية. فهي متدنية نسبيًا وشبه غائبة أحيانًا على المستوى المتوسط، حيث التواصل المباشر مع القواعد الحزبية والمجتمع، كما في الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل، اللذين يعزيان هذا الغياب إلى عدم تقبل البيئة الحاضنة لقيادة المرأة ميدانيًا. وتتحسن النسبة في المستويات التنفيذية، وهي غالبًا إدارية وتشمل الأجنحة المتخصصة كالمرأة والشباب.

     

    ويبدو أنّ التدابير الحزبية كالكوتا كانت فعالة في رفع نسبة مشاركة المرأة حيث تمّ اعتمادها، إذ وصلت إلى 42٪ في مجلس قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي، بينما لم تتجاوز 5.8٪ في الهيئة التنفيذية لحزب القوات اللبنانية الذي يرفض اتخاذ أي تدابير خاصة.

     

    لكن هذا الانفتاح لا يعكس بالضرورة تحولًا فعليًا في ممارسة السياسة، إذ ما زال الواقع يعاني من إقصاء تشاركي للنساء داخل الأحزاب. فقد أظهرت الدراسة أنّ النساء لا يشاركن في عضوية معظم الهيئات الانتخابية الداخلية، وأنّ أقسام المرأة الموجودة في نحو 75% من الأحزاب، حين تُستشار، لا تمتلك قرارًا حاسمًا في اختيار المرشحين والمرشحات. ويبقى القرار النهائي بيد "الشبكة الموازية" أو "الحلقة الضيقة" من المقربين من القيادات الذكورية النافذة، وهو ما أشارت إليه 63% من المستطلعات. كما أنّ "الكوتا الداخلية" التي تعتمدها بعض الأحزاب تُطبَّق على المراكز التنظيمية والإدارية داخل الحزب فقط، ولا تمتد إلى الترشيحات النيابية أو البلدية أو الوزارية. إنّ غياب الإرادة السياسية لدى القيادات يُبقي مشاركة النساء شكلية في السياسة بدل أن تصبح أداة إصلاحية، ويعطّل أي تحول بنيوي داخل الأحزاب.

     

    ومن أجل ضمان عدالة الوصول الحد من التمييز البنيوي، على الأحزاب اعتماد آليات شفافة وخاضعة للمساءلة في اختيار المرشحين للمناصب الحزبية أو للانتخابات.

     

    الكوتا الحزبية والإصلاح الانتخابي

    لقد أثبتت التجارب أنّ اعتماد الكوتا المؤسسية بآليات واضحة وملزمة هو السبيل الأسرع لتصحيح الخلل التمثيلي. تجربة الأحزاب التي اعتمدتها داخليًا أظهرت زيادة نسبية في مشاركة النساء في القيادة العليا، لكنّ ذلك لم ينعكس على الترشيحات الانتخابية، إذ غالبًا ما تُرشّح النساء في دوائر غير آمنة من دون موارد مالية أو دعم إعلامي كافٍ.

     

    وأظهرت دراسة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (2022) أنّ من أصل 118 امرأة ترشحنّ للانتخابات، فازت فقط 8، وأنّ مجمل المرشحات حصلن على 7٪ من مجموع الأصوات التفضيلية فقط، ما يثبت أنّ الخلل بنيوي وليس مرتبطا بالكفاءة الشخصية للمرشحات.

     

    وجاءت دراسة هيئة الأمم المتحدة للمرأة (2025) لتؤكد أنّ الفجوة بين الخطاب والممارسة ما زالت واسعة، إذ إنّ معظم الأحزاب التي ترفع شعارات المساواة علنًا لم تترجمها في ترشيحاتها الانتخابية أو في بنيتها التنظيمية الداخلية. فحركة أمل مثلًا تضمّ نحو 20٪ من النساء في مكتبها السياسي من دون التزام بكوتا داخلية، رغم أنّها كانت من الأحزاب التي تقدّمت بمشروع قانون الكوتا عبر النائبة عناية عزّ الدين، وهي النائبة الوحيدة عن الحركة. أما تيار المردة، فقد قدّم رئيسه عام 2005، حين كان وزيرًا للداخلية، مشروع قانون انتخابي يتضمّن كوتا نسائية، لكنه لم يترجم هذا الالتزام في ترشيحاته حتى العام 2022 . في المقابل يرفض حزب القوات اللبنانية اعتماد الكوتا بحجة التمسك بمبدأ الكفاءة كمعيار وحيد للترشيح، وقد نجحت مرشحتان من أصل أربع على لوائحه في الانتخابات النيابية 2022.

     

    أما التيار الوطني الحرّ، فاعتمد خطة مأسسة المساواة والتدقيق الجندري، شملت تدريبًا مشتركًا للنساء والرجال وتوفير بيئة عمل صديقة للمرأة، ومع ذلك لم تتجاوز نسبة النساء في القيادة العليا 11٪، ووصلت مرشحة واحدة فقط إلى البرلمان من أصل اثنتين.

     

    ويعتمد حزب تقدّم كوتا داخلية بنسبة 30٪ في مكتبه السياسي، ويُعدّ من الأحزاب القليلة التي رشّحت امرأة ورجلًا، ففازا معًا في الانتخابات.

     

    في المقابل، رشّحت بعض الأحزاب الأخرى نساء إلى البرلمان من دون أن توفّر لهن الدعم الكافي، كما في حالة نائبة رئيسة الحزب التقدّمي الاشتراكي، التي حصلت على 681 صوتًا فقط من أصل 83,389 صوتًا حصدتها لائحة الحزب في انتخابات 2022، فيما بلغت نسبة مرشحات حزب الكتائب 26.3% ولم تفز أي منهن.

     

    أما تيار المستقبل الذي لم يشارك في انتخابات 2022، ، فشكّل حالة مميّزة من خلال دعمه الفعلي للمرشّحات في انتخابات 2018، حيث فازت ثلاث نساء من أصل أربع مرشّحات وقد شكلن نصف الكتلة البرلمانية النسائية، علمًا أنّ المرشّحة الخاسرة حصلت على أكثر من 3000 صوت مقابل 77 فقط للفائز، ما يُبرز الخلل في القانون الانتخابي وضعف العدالة التمثيلية رغم فاعلية الدعم الحزبي.

     

    وبالمقارنة مع الأحزاب التقليدية ذات الموارد المالية والإعلامية والنفوذ السياسي والطائفي، تظهر الأحزاب والتحالفات المنضوية ضمن الحالة التغييرية أكثر انسجامًا مع مبادئ المساواة التي تبنّتها منذ تجربة "بيروت مدينتي" في الانتخابات البلدية لعام 2016، حيث شكّلت النساء 50٪ من أعضاء اللائحة. وقد استمر هذا النهج في الانتخابات النيابية لعام 2018، إذ رشّح تحالف وطني أكثر من 30٪ من النساء على لوائحه في تسع دوائر انتخابية، إلا أنّ اللائحة لم تحصد سوى مقعدٍ واحد، وكان من نصيب النائبة بولا يعقوبيان.
    أما في انتخابات عام 2022، فقد رشّح التحالف خمس نساء من أصل ثمانية مرشحين (62.5٪) في دائرة بيروت الأولى، وفازت اثنتان منهن.

     

    بالمحصلة، حصدت الأحزاب التغييرية مجتمعةً أربعة مقاعد من أصل ثمانية حصلت عليها النساء في انتخابات عام 2022.

     

    وتشير هذه المعطيات إلى أنّ ترشيح النساء في دوائر انتخابية آمنة ضمن تحالفات داعمة، إلى جانب توفير الدعم السياسي والمالي والإعلامي لهن، واعتماد الكوتا كآلية فاعلة لضمان إدماجهن في اللوائح الانتخابية، تُشكّل جميعها عوامل حاسمة في تمكين النساء من الوصول إلى مواقع صنع القرار السياسي بالرغم من الإمكانات المحدودة. ومع ذلك، يبقى هذا التمكين هشًّا في ظلّ ممارسات تمييزية وأشكال من العنف السياسي القائم على النوع الاجتماعي، الذي ما زال يشكّل عائقًا بنيويًا أمام المشاركة السياسية المتكافئة ويعمل على تقويض حضورهن لإقصائهن حتى عند بلوغ مركز القرار لتثبيت الهيمنة الذكورية في تعد صريح على جوهر الممارسة الديمقراطية.

     

    العنف السياسي: الحاجز الصامت

    تُظهر الشهادات الميدانية أنّ نساء كثيرات تعرّضن للتحرش أو التنمّر السياسي دون الإبلاغ خوفًا من الوصمة أو الانتقام. كما أنّ غياب آليات إبلاغ فعالة داخل الأحزاب يحرم النساء من الحماية ويعزز عزوفهنّ عن العمل العام.
    من هنا، تبرز الحاجة إلى إنشاء وحدات حماية مستقلة ومدونات سلوك واضحة وملزمة تضمن بيئة آمنة ومساءلة داخل الأحزاب والبرلمان. فالمشاركة السياسية تبدأ من الإحساس بالأمان داخل الفضاء الحزبي والسياسي.

     

    خاتمة: نحو إصلاح سياسي شامل

    إنّ التباين المستمر بين الوعود السياسية والإصلاحات الفعلية يكشف أنّ إقرار القوانين الداعمة للمساواة لا يُعرقله غياب الوعي فحسب، بل غياب الإرادة السياسية لدى الأحزاب المهيمنة التي ترفع الشعارات من دون ترجمتها إلى سياسات وتشريعات نافذة. فالأحزاب التي تمتلك الغالبية في البرلمان هي نفسها التي عطّلت أو أجّلت مشاريع قوانين داعمة للمرأة كالكوتا ومناهضة العنف ضدّ النساء، ما يعكس خللًا بنيويًا في النظام السياسي القائم بسبب الهياكل البطريركية وديناميكيات السيطرة والتحكم التي تنتج عنها.

     

    إنّ أيّ إصلاح فعلي في تمثيل النساء لا يمكن أن يتحقّق من دون اشراكهن أيضًا في الإصلاح الجذري للنظام الانتخابي والسياسي ككلّ، بما يضمن المساواة في الفرص والموارد والمساءلة. فالقانون الانتخابي الحالي، القائم على النسبية ضمن دوائر طائفية ضيّقة، لا يعبّر عن عدالة التمثيل ولا يتيح منافسة متكافئة، بل يرسّخ الزبائنية ويُبقي النخب السياسية في مواقعها.

     

    إنّ إدماج مبادئ الشفافية والمساءلة والمساواة الجندرية في العملية الانتخابية يشكّل ركيزة أساسية للحوكمة الرشيدة، إذ إنّ غيابها يعني استمرار احتكار القرار داخل دوائر مغلقة من السلطة السياسية والمالية. كما أنّ توسيع المشاركة النسائية يعزّز الثقة العامة بالمؤسسات، ويحدّ من الفساد عبر توسيع قاعدة الرقابة المجتمعية وإشراك فئات طال تهميشها في صنع القرار.

     

    تمكين النساء في السياسة ليس مسألة عدد، بل مسار لتجديد النخب وبناء حكم رشيد يعبّر عن المجتمع بكل مكوناته ويفتح الباب للبنان جديد أكثر عدلًا وتوازنًا، يُدار بعقل سياسي كامل لا بنصفه فقط.

     

    المراجع:

    شبارو، عبير (2025).  المرأة اللبنانية من المشاركة السياسية الى القيادة الحزبية. هيئة الأمم المتحدة للمرأة ومكتب المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان. بيروت: هيئة الأمم المتحدة للمرأة. https://lebanon.unwomen.org/sites/default/files/2025-09/ar_lebanese_women_from_political_participation_to_party_leadership_full_report_1.pdf

     

    United Nations Development Programme. (2022). 2022 Parliamentary elections key results brochure [PDF]. UNDP. https://www.undp.org/sites/g/files/zskgke326/files/2023-11/final_2022-parliamentary_elections_key_results_brochure_web.pdf

    عبير شبارو

    خبيرة في السياسات الجندرية والمناصرة السياسية تتمتّع بأكثر من عشرين عامًا من الخبرة في تطوير السياسات العامة المستجيبة للنوع الاجتماعي وتعزيز الإصلاح المؤسسي في لبنان. شغلت مناصب حكومية رفيعة، من بينها مستشارة لرئيس مجلس الوزراء، مستشارة لوزير الدولة لشؤون المرأة، ونائبة رئيس الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية. شاركت  شبارو في قيادة إصلاحات وطنية محورية تتعلق بالعنف الأسري، وشمولية بيئة العمل، ومشاركة المرأة السياسية. وتشغل حاليًا منصب نائبة رئيسة الرابطة اللبنانية لسيدات العمل ، وهي مؤسِّسة مبادرة "Equipaths" التي تُعنى بتعزيز السياسات المبنية على الأدلة والحوكمة الشاملة .

اشتركوا في نشرتنا الإخبارية
شكرًا للإشتراك في نشرتنا الإخبارية