• حوكمة
    أكتوبر 09، 2025

    اللامركزية الإدارية في لبنان: فرصة للإصلاح أم مُنزلَق للتشرذُم والانقسام؟

    • زينة سامي الحلو
    اللامركزية الإدارية في لبنان: فرصة للإصلاح أم مُنزلَق للتشرذُم والانقسام؟

    ما هي المسألة المطروحة؟

    يتمّ الترويج لمفهوم اللامركزية عالميًا باعتبارها مسارًا ممكنًا نحو تحقيق الديمقراطية والإدارة السليمة والتنمية المحلّية من خلال نقل الصلاحيات الإدارية من السلطات المركزية إلى السلطات المحلّية. يهدف هذا المسار إلى تعزيز الحوكمة المحلّية، وتوسيع نطاق المشاركة العامّة، وتكريس مبدأ المساءلة - بما يؤدّي في نهاية المطاف إلى تحسين كفاءة الخدمات في القطاعَيْن العام والخاصّ عبر توجيهها لتلبية مصالح المجتمع المحلّي.

     

    تتّخذ اللامركزية أشكالًا متعدّدة، منها الإدارية والمالية والإقليمية والسياسية والخدمية، ولكلٍّ منها إطارها القانوني الفريد. وتكتسب هذه الفروقات أهمّيةً خاصّة في لبنان، حيث كثيرًا ما يحصل التباس في النقاشات العامّة بين مفهوم اللامركزية الإدارية - التي تتمثّل في نقل صلاحيات تقديم الخدمات والسلطة التنفيذية إلى الهيئات المحلّية - واللامركزية السياسية التي تنطوي على تحويل سلطة اتّخاذ القرار والتمثيل السياسي إلى هيئات محلّية مُنتخَبة. وبينما بقيت اللامركزية الإدارية في لبنان محصورة إلى حدّ كبير ضمن المستوى البلدي، ما زالت اللامركزية السياسية تُشكِّلُ مسألةً مُثيرة للجدل، إذ ترتبط بأسئلة أوسع تتعلّق بتقاسُم السلطة والترابُط الوطني.

     

    مع ذلك، تطرح اللامركزية تحدّياتٍ كثيرة، لا سيّما في المجتمعات المفكّكة والدول الضعيفة، ممّا يُثير بعض المخاوف بشأن آثارها غير المباشرة. وفي لبنان، لطالما وُضِعَت مسألة اللامركزية الإدارية على طاولة النقاش منذ عقود. يخضع الإطار المُعتمَد حاليًا لقانون البلديات رقم 118 الصادر عام 1977، وذلك بعد أن بدأت الدعوات إلى الإصلاح منذ ستّينيات القرن الماضي لمعالجة الفوارق بين المناطق.

     

    خلال سنوات الحرب الأهلية، قوبلت المطالب بشأن اللامركزية السياسية بدعواتٍ إلى اعتماد اللامركزية الإدارية كخيار لتفادي الانقسام. وقد نصّت وثيقة الوفاق الوطني لعام 1989 (اتّفاق الطائف)، التي أنهت الحرب، على التزامٍ بـ "اللامركزية الإدارية الموسّعة". وقد شملَ هذا الالتزام نقل الصلاحيات إلى المجالس البلدية المُنتخَبة، وإنشاء وحدات لامركزية على مستوى المحافظات، بهدف تحسين تقديم الخدمات، وتعزيز مشاركة ا

    لمواطنين، والحدّ من الاعتماد على مؤسّسات الدولة المركزية (اتّفاق الطائف). وقد أدّى هذا النصّ إلى إعداد عدد من المقترحات ومشاريع القوانين منذ عام 1990، إلّا أنَّ أيًّا منها لم يُعتمَد (برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي، 2016).

     

     

    مقترحات بشأن اللامركزية الإدارية

    بين عامَيْ 1995 و2014، شهدَ لبنان خمسة مقترحات تتعلّق باللامركزية الإدارية، اختلفت في ما بينها من حيث النطاق والمنهجية. وقد جاءت هذه المبادرات في ظلّ اتّفاق الطائف لعام 1989، الذي كانَ قد أَقَرَّ نظريًا اللامركزية الإدارية الموسّعة كجزء من مسار إصلاح الحوكمة في مرحلة ما بعد الحرب اللبنانية.

     

    ولكنْ، في الممارسة العملية، عكست المقترحات الأولى تحوُّلًا حَذِرًا وسطحيًا بالإجمال. فعلى سبيل المثال، رَكَّزَ اقتراح النائب أوغست باخوس عام 1995 على تشكيل مجالس مُعيَّنة بصلاحيات محدودة، بطريقةٍ أقرب إلى فكّ الارتباط الإداري منها إلى اللامركزية الفعلية. أمّا اقتراح ميشال المرّ في عام 1999 فقد هدفَ إلى إنشاء مناطق إدارية تضمّ مسؤولين مُعيَّنين ومجالس مُنتخَبة، لكنَّها تحت إشراف وزارة الداخلية. وسعى اقتراح الياس المرّ عام 2001 إلى توسيع صلاحيات البلديات، بما في ذلك انتخاب رؤسائها مباشرةً ومنحها الاستقلالية المالية، ممّا شَكَّلَ خطوةً متواضعة باتّجاه اللامركزية.

     

    في عام 2007، قدَّمَ روبير غانم اقتراحًا لإنشاء مجالس مؤلّفة من 15 عضوًا مُنتخَبًا على مستوى الأقضية، تضمّ رؤساء البلديات، والمخاتير، وممثّلين عن النقابات والجمعيات المهنية. وقد نصَّ الاقتراح على منح هذه المجالس صلاحيات تقريرية وتنفيذية، إلى جانب الاستقلالية المالية والإدارية - ما شَكَّلَ خطوةً جوهرية نحو اللامركزية على صعيد الأقضية. في المقابل، حافظَ الاقتراح على الطابع المركزي للسلطة على مستوى المحافظات، حيث استمرَّ الإشراف بِيد المُحافِظ ومجلس المحافظة (عقل، 2017).

     

    يُعَدّ مشروع قانون سليمان-بارود لعام 2014 المقترح الأشمل حتّى الآن في مجال اللامركزية الإدارية في لبنان. وقد نصَّ على تحويل الأقضية إلى وحدات إدارية لامركزية تحظى بمجلسٍ مُنتخَب، واستقلاليةٍ إدارية ومالية، وصندوق لامركزي يُدار بالشراكة مع الحكومة المركزية، ليحلّ محلّ القائمقامين واتّحادات البلديات.

     

    تضمَّنَ مشروع القانون كوتا نسائية بنسبة 30 في المئة، ووضعًا خاصًّا لمدينة بيروت، كما نصَّ على نقل صلاحية الإشراف على البلديات من وزارة الداخلية إلى وزارة جديدة تُعنى بالإدارة المحلّية. وقد أثارَ المشروع في حينه بعض النقاش السياسي، في وقت لعب فيه المركز اللبناني للدراسات  (LCPS) دورًا فاعلًا في دعمه من خلال تنظيم سلسلة من الطاولات المستديرة وإصدار عدد من المنشورات التي هدفت إلى توسيع المشاركة العامّة والمؤسّسية.

     

    سعى الاقتراح إلى تعزيز المشاركة الديمقراطية، والاستقلالية المالية، والمساءلة، تماشيًا مع المبادئ التي كرّسها اتّفاق الطائف بشأن اللامركزية والإنماء المتوازن. ودعا المشروع أيضًا إلى إعادة توزيع الضرائب القائمة بدلًا من فرض ضرائب جديدة، واشتملَ على عددٍ من الإصلاحات الانتخابية المهمّة، مثل تشكيل لجنة انتخابية مستقلّة والسماح بالتصويت في مكان الإقامة (منصّة اللامركزية - المركز اللبناني للدراسات).

     

    أُحيلَ مشروع قانون سليمان-بارود إلى اللجان البرلمانية المشتركة التي شكّلت لجنة فرعية عقدت آخر اجتماع لها في تشرين الأوّل/أكتوبر 2019. ومنذ ذلك الحين، واجَهَ لبنان تحدّيات كثيرة، أبرزها الاحتجاجات الاجتماعية الواسعة، وجائحة كوفيد-19، وانفجار مرفأ بيروت، إلى جانب الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية المستمرّة التي عطّلت مسار المناقشات السياساتية.

     

    بعد انتخابات عام 2022، دعا بعض النوّاب إلى إدراج مشروع القانون على جدول الأعمال، إلّا أنَّ سيرَ العمل تعثَّرَ نتيجة التعقيدات الإجرائية والرفض السياسي. تتضمّن النقاط العالقة تعديل آليات توزيع الموازنة، والبتّ في مسألة التصويت وفق مكان الإقامة، ممّا يُبقي مستقبل اللامركزية الإدارية غامضًا.

     

     

    التحدّيات والرهانات

    المستوى الذي تُطبَّق عنده اللامركزية – على مستوى البلدية أو القضاء أو المحافظة - ليسَ مجرّد مسألة تقنية، بل هو مسألة سياسية أساسية. فهو يُحدِّد توزيع السلطة، والسيطرة على الموارد، والمساءلة المؤسّساتية. ومع ذلك، في لبنان، تُغلَّف هذه القضية غالبًا بمبرّرات الإصلاح الخطابية، مُتجَنِّبَةً مناقشة الآثار العميقة على تماسُك الدولة ومصالح النُّخَب.

     

    أظهرَ بحثٌ أجراه المركز اللبناني للدراسات في الفترة 2014-2015 أنَّ اللامركزية الإدارية في لبنان تتّصف بـ "مفاهيم مغلوطة" وخاطئة مستمرّة، وبمزيجٍ من التصوُّرات العامّة والسرديات المُستخدَمة لأغراض سياسية. ويتمّ تصويرها بالإجمال باعتبارها مدخلًا إلى الفدرالية أو الفصل أو حتّى التقسيم، حيث استغلّتها عدّة فئات سياسية في خطابها لمواجهة خصومها، واصفةً إيّاها كوسيلة لضمان الاستقلال الطائفي أكثر من كونها مسارًا للإصلاح المؤسّسي.

     

    نتيجةً لذلك، تزايدت الدعوات للفدرالية مؤخّرًا، لا سيّما بين المسيحيين، حيث اقترحَ حزب الوطنيين الأحرار نظامَ الفدرالية كبديلٍ للنظام الحالي القائم على التوازن بين المسلمين والمسيحيين. ينبع هذا الاقتراح من الاستقطاب الكبير والتوتُّر بين الفئات السياسية، لا سيّما المسيحية، بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يُعزى تأثيرها إلى هيمنة حزب الله على المشهدَيْن السياسي والعسكري في لبنان (أبي عقل، 2024).

     

    تُشير مقترحات الفيدرالية في لبنان إلى الإبقاء على دولة فيدرالية تُدير شؤون السياسة الخارجية والدفاع والسياسة النقدية (بارود، 2021). وهذا يعني أنَّ القضايا الرئيسية التي تكمُن وراء الدعوات إلى الفيدرالية، مثل توزيع الموارد والأنظمة الضريبية والقرارات المتعلّقة بالحرب، قد لا تُعالَج، بل قد تتفاقم.

     

    علاوةً على ذلك، يُواجِه تطبيق الفدرالية تحدّياتٍ كبيرة نتيجة التنوّع الاجتماعي في لبنان، ممّا يُصعِّب رسم حدود فيدرالية واضحة، وقد يؤدّي ذلك إلى تضارُبٍ بين الاستقلالية الثقافية والتقسيم الجغرافي. سيحتاج كلّ كيان فيدرالي إلى دستورٍ خاصّ، ما قد يُثير خلافات حول الهوية الثقافية والتشريعات المُعتمَدة. على سبيل المثال، في المناطق التي يُهيمِن عليها حزب الله، قد تتأثّر القوانين بالشريعة الإسلامية، الأمر الذي يُثير مخاوف لدى مَنْ لا يرغب في العيش في ظلّ هذه القيود، ويُكرِّس في الوقت نفسه مزيدًا من السيطرة لحزب الله على المجتمع الشيعي ضمن مناطق نفوذه.

     

    من المغالطات الشائعة أيضًا اعتبار أنَّ اللامركزية الإدارية تقتصر على منح المجالس البلدية استقلاليةً أكبر. ولكنَّ العدد الكبير للبلديات في لبنان (أكثر من 1000 بلدية في بلدٍ تبلغ مساحته 10,452 كلم² ويبلغ عدد سكّانه نحو 6 ملايين نسمة) يطرح تحدّيات كثيرة لناحية تطبيق اللامركزية على نحو فعّال. وللمقارنة، تضمّ قبرص 40 بلدية فقط، رغم أنَّ مساحتها تبلغ 9,250 كلم² وعدد سكّانها يبلغ 1,260,138 نسمة.

     

    تجدر الإشارة أيضًا إلى أنَّ سبعين في المئة من البلديات في لبنان تضمّ أقلّ من 4,000 ناخب مُسجَّل، وتُدار من قِبَل مجالس مؤلّفة من 9 إلى 12 عضوًا، وغالبًا ما تُهيمِن عليها عائلات تقليدية متنافسة. ويؤدّي ذلك إلى قيام نظام محاصصة مُصغَّر يُعيق في كثير من الأحيان تقديم الخدمات بفعّالية (منصّة اللامركزية – المركز اللبناني للدراسات)، كما تُعاني الغالبية الكبرى من البلديات من ضعف الموارد المالية، ونقص الكوادر البشرية، وسوء حالة البنية التحتية. في الواقع، 86% من البلديات لديها أقلّ من ستّة موظّفين، وحوالي 40% يعمل فيها موظّف واحد فقط، بينما تفتقر 75% من البلديات إلى القدرة المالية على توظيف أيّ موظّفين جُدُد (المركز اللبناني للدراسات، 2015).

     

    في دراسة حديثة أجرتها الشركة الدولية للمعلومات عام 2025، تَبيَّنَ أنَّ أكثر من نصف البلديات اللبنانية تتلقّى أقلّ من 250 مليون ليرة لبنانية سنويًا من الصندوق البلدي المستقلّ - ما يُعادِل نحو 2,800 دولار عام 2022. وهذا المستوى من التمويل غير كافٍ حتّى لتغطية الاحتياجات الأساسية لتقديم الخدمات، خصوصًا في البلديات الصغيرة أو الريفية. فضلًا عن ذلك، تبرز فجوة أساسية نتيجة حصول البلديات على أقلّ من 6% من نفقات الحكومة المركزية، إلى جانب الخطاب اللامركزي الذي يتجاهل غالبًا البُعد المالي.

     

    تُظهِر هذه الفروقات وجود ضعف بنيوي عميق في نظام التمويل البلدي في لبنان، وتُبرِز الحاجة المُلِحَّة إلى إصلاحٍ يضمن حوكمةً محلّية أكثر عدالةً واستدامة. ولقد أدّت الأزمات الاقتصادية والسياسية المستمرّة إلى شلّ الحكومات المحلّية وتقليص قدرتها على العمل باستقلالية. ورغم أنَّ اللامركزية غالبًا ما تُطرَح كسبيل لتمكين البلديات، إلّا أنَّ الواقع يُشير إلى أنَّ العديد منها يفتقر إلى القدرة المؤسّسية والمالية التي تُخوِّله تَحَمُّل مسؤوليات أكبر.

     

    بالتالي، إذا لم تترافق اللامركزية مع تمويلٍ كافٍ وحوكمة فعّالة وإصلاحات هيكلية، قد تبقى مجرّد إجراء رمزي بدلًا من أن تُشكِّلَ خطوةً تحويلية، ومن المُرجَّح أن يكون مصيرها الفشل. فلا يمكن أن تتحمّل البلديات مسؤوليات جديدة من دون امتلاك القدرة المالية والمؤسّسية اللازمة لتنفيذها.

     

    قد يُشكِّل دمج البلديات حلًّا ممكنًا لمعالجة هذه الإشكاليات. ولكنَّ الإقدام على خطوةٍ كهذه يُتوقَّع أن يكون صعبًا، إن لم يكُن مستحيلًا، بسبب الاعتبارات السياسية والعائلية المحلّية، التي غالبًا ما ترتبط بممارسات الزبائنية والمحسوبيات بين النُّخَب السياسية الحاكمة وقواعدها على المستوى المحلّي. فهذه الديناميّات تُعرقِل جهود دمج البلديات، نظرًا لمنظومة النفوذ المحلّي المتجذّرة بعمق.

     

    وبالرغم من أنَّ بعض الجهات بدأت بمناقشة فكرة دمج البلديات (المؤسّسة الدولية للتقارير حول الديمقراطية، 2020)، إلّا أنَّ هذا النقاش لم يتبلور بعد على المستوى السياسي. لا تزال الفكرة نظرية إلى حدّ كبير، في ظلّ توقُّع مقاومة ملحوظة من الأطراف المُستفيدة من النظام القائم. ولكي ينجح دمج البلديات، لا بدّ من تخطّي عوائق سياسية واجتماعية كبيرة، إضافةً إلى تأمين الموارد اللازمة وبناء هياكل حوكمة تُمكِّن الهيئات المُدمَجة من أداء مهامها بفعّالية.

     

     

    ما أهمّية ذلك؟

    تُساهم اللامركزية، عند تصميمها بشكل مناسب وتوفير الموارد اللازمة، في تعزيز الحوكمة من خلال جعل السلطات المحلّية أكثر استجابةً وإنصافًا وخضوعًا للمساءلة. فهي تُتيح للبلديات تلبية احتياجات المجتمع بشكل أفضل، كما تدعم التنمية الاقتصادية، وتضمن حصول المناطق المهمّشة على الرعاية اللازمة.

     

    في سياقات ما بعد النزاع، مثل جنوب أفريقيا والبوسنة والهرسك، ساهمت اللامركزية في تخفيف التوتّرات السياسية عن طريق إعادة توزيع السلطة وتعزيز المشاركة الشاملة. ومع ذلك، كما يُشير فاغيت وفوكس وبوشل (2015)، فإنَّ نجاحها في البلدان النامية يعتمد بدرجة أقلّ على التصميم المؤسّسي، ويرتبط بدرجة أكبر بالاقتصاد السياسي الأوسع - وخاصّةً قدرة الجهات الفاعلة المحلّية على التعامل مع اختلالات السلطة وتقديم الخدمات العامّة.

     

    في لبنان، لا يمكن المضي قدمًا في اللامركزية الإدارية بشكل فعّال من دون مواجهة أبعادها الطائفية والاستغلال السياسي للإصلاح. فرغم تقديمها غالبًا كأداة تطويرية، إنَّما يُنظَر إليها على نطاق واسع - وخاصّةً بين النُّخَب السياسية وبعض شرائح المجتمع - كخطوة مستتِرة نحو الفدرالية أو الانفصال الطائفي. ينبع هذا الخوف من التركيبة الطائفية في لبنان، حيث لا تُعتبَر اللامركزية وسيلةً للتنمية الشاملة، بل تهديدًا للتماسُك الوطني والسلطة المركزية (عقل، 2017). ونادرًا ما تراها النُّخَب السياسية كاستراتيجية لبناء الدولة؛ بل تستخدمها لتعزيز شبكات المحسوبيات والحفاظ على النفوذ الطائفي.

     

    اللامركزية الفعّالة في لبنان تتطلّب أكثر من مجرّد تصميم تقني - إذ تحتاج إلى دولة مركزية قويّة ومسؤولة، وتَوافُق سياسي على أهدافها، وتحديث المؤسّسات المحلّية. ويشمل ذلك إصلاح الأُطُر البلدية القديمة، وضمان تحويلات مالية عادلة، وبناء قدرات الجهات الفاعلة على المستوى المحلّي لتمكينها من تقديم الخدمات وإشراك المجتمعات. ففي غياب هذه الأُسُس، تُصبح اللامركزية مجرّد بادرة رمزية تُحوِّل المسؤوليات من دون توفير الوسائل اللازمة لتنفيذها، ممّا يُعمِّق أوجه عدم المساواة ويُعزِّز المحسوبيات الطائفية.

     

    والأهمّ من ذلك هو أنَّه يجب ألا تُعتبَر اللامركزية بديلًا للسلطة المركزية. في ظلّ هشاشة المؤسّسات وتجذُّر النُّخَب في لبنان اليوم، إنَّ تناوُل اللامركزية كحلّ بديل لضعف الدولة ليس فقط خطأ - بل يُشكِّلُ خطرًا حقيقيًا. فحين تُطبَّق بدون وجود حكومة مركزية فاعلة، قد تُسرِّع من الانقسام، وتُعزِّز المحسوبيات، وتقضي على ما تبقّى من ثقة المواطنين بالدولة. وكما تُؤكِّد كاراسكال (2020)، فإنَّ اللامركزية تُكمِّل السلطة المركزية - ولا تحلّ محلّها.

     

    في الختام، على الرغم من أنَّ اللامركزية قادرة على إعادة تشكيل ديناميّات الدولة، إلَّا أنَّ نجاحها يتوقّف على نوايا الجهات السياسية وأفعالها. وفي ظلّ الوضع اللبناني الراهن، لا يجب اعتبارها حلًّا محايدًا أو تقنيًا. إنَّها مشروعٌ سياسي بامتياز، ولها تبعات بعيدة المدى. وبدون ضمانات قويّة ومساءلة حقيقية، قد تؤدّي اللامركزية إلى تعزيز شبكات المحسوبية، وتعميق التشرذم، وتسريع تدهور المؤسّسات. لذلك، يجب التعامل مع هذه المسألة بتفكيرٍ عميق، لا بل بحكمةٍ ونهجٍ متأنٍّ ومدروس.

     

    المراجع

    زياد بارود، اللامركزية في لبنان ليست مُحايِدة | معهد الشرق الأوسط (mei.edu)، 5 نيسان/أبريل، 2021

     

    المركز اللبناني للدراسات، حول اللامركزية الإدارية في لبنان، 2015، https://api.lcps-lebanon.org/content/uploads/files//1573808844-lcps_book-facing_pages-english-2015-03-27.pdf

     

    ميشال عقل، اللامركزية الإدارية في لبنان، مؤسّسة كونراد أديناور، حركة التجدُّد الديمقراطي، كانون الأوّل/ديسمبر 2017، محضر الاجتماع العادي رقم (19/09) بتاريخ 27 تمّوز 2009 (مسودة)(kas.de)

     

    إدواردو وسيم أبو لطيف، المسألة الفيدرالية في لبنان: أفكار مغلوطة وأوهام، 50 ظلًّا للفيدرالية، 2021، https://50shadesoffederalism.com/case-studies/the-federal-question-in-lebanon-myths-and-illusions/

     

    منى حرب وسامي عطاالله (محرّران)، الحكومات المحلّية والخدمات العامّة: تقييم اللامركزية في العالم العربي – لبنان، https://api.lcps-lebanon.org/content/uploads/files/decentralisation.pdf

     

    نحو اللامركزية الإدارية في لبنان، منصّة اللامركزية – المركز اللبناني للدراسات، http://www.lcps-decentralization.com/facts.aspx?id=2

     

    مشروع مناظرة عامّة حول الإصلاح الإداري اللامركزي في لبنان، التقرير الختامي، سلسلة حوار السياسات العامّة رقم 4، لبنان، مبادرة المساحة المشتركة، برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي، 2016، https://shorturl.at/Z1IMu

     

    غدير العلايلي، اللامركزية الإدارية المتواضعة في لبنان وخطط توسُّعها، جي سي ال – الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، العدد الأوّل، كانون الأوّل/ديسمبر 2020، https://shorturl.at/V6brO

     

    ثوماس و. هاس، منى حرب وسامي عطا الله، اللامركزية في لبنان. في: فرازمند، أ. (محرّرون) الموسوعة العالمية للإدارة العامّة والسياسات العامّة والحوكمة. سبرينغر، تشام، 2022، https://doi.org/10.1007/978-3-030-66252-3_2423

     

    يارا أبي عقل، حزب الوطنيين الأحرار يقترح مشروعًا للفيدرالية، «حلّ وليسَ خَطَرًا»، لوريان لو جور، 14 حزيران/يونيو 2024، https://shorturl.at/UX30v

     

    جان-بول فاغيت، آشلي م. فوكس وكارولين بويشل: هل تُقوّي اللامركزية الدولة أم تُضعِفها؟ السلطة والتعلُّم الاجتماعي في دولة مَرِنة. قسم التنمية الدولية، كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، لندن، المملكة المتّحدة، كانون الثاني/يناير 2015، https://shorturl.at/8yBtL

     

    إعادة هيكلة الحوكمة على المستوى دون الوطني في لبنان: نحو إنفاق عام فعّال وتقليص التفاوت بين المناطق، المؤسّسة الدولية للتقارير حول الديمقراطية، تشرين الثاني/نوفمبر 2020، https://shorturl.at/K8BvO

     

    إيزابيل هينزلر كاراسكال، اللامركزية في لبنان – نموذج أقرب إلى المثالية أم خطوة تالية ممكنة، أوراق لبنان، مؤسّسة فريدريش ناومان، 10. 2020، the-lebanon-papers-2-decentralisation.pdf (freiheit.org)
    زينة سامي الحلو باحثة ومستشارة في شؤون التنمية، لديها خبرة تزيد عن 20 عامًا في مجال بحوث السياسات والتنمية، بما في ذلك الانتخابات والقضايا الاجتماعية والاقتصاد السياسي والتنمية المحلّية  .
اشتركوا في نشرتنا الإخبارية
شكرًا للإشتراك في نشرتنا الإخبارية